إيران التراجيدية وإيران الكوميدية: الجرَّة والسحليَّة
وصف كثيرون من المتابعين العرب عمليةَ "الوعد الصادق"، التي قامت بها إيران في إبريل/ نيسان الفائت، بالمسرحيّة، لأنّها لم تؤذِ إسرائيل، وكانت ردّاً على قصف القنصلية الإيرانية بدمشق، التي قضى فيها القائد محمّد رضا زاهدي وسبعةٌ آخرون من إيران، وستّةُ مدنيين من سورية، وكان ردُّ إيران معروفَ الموعد، "رانديفو"، حسب مبغضي إيران، وهي استعمار كما لا يُخفَى، وفي الحرب يفضّلُ الخبراء ضرب المباغتة لا ضرب المواعيد. وُصِفت "الوعد الصادق" من مُحلّلين آخرين بأنّها استعراضٌ للقوّة وتلويحٌ بردٍّ لا يُبقي ولا يذر، وقد استفادت إسرائيل من المسرحيّة باستدرار العطف الدولي والأميركي، والتزوّد بالسلاح والذخائر، وقد ضخَّم إعلامُها الردَّ. السؤال، ونحن نتحدَّث عن المسرحيّة، ماذا عن التمثيل الإيراني، هل يجيد الإيرانيون التمثيل السينمائي والتلفزيوني والمسرحي والسياسي؟
وهناك عرض إيراني عسكري حديث جرى قبل أربع سنوات، يستعرض فيه مقاتلون إيرانيون قوَّتَهم وفتوّتَهم وبأسَهم، فيعجز "جاكي شانهم" عن كسر جرَّة فُخّارية، ويحاول مراتٍ عدّةٍ تحطيمها بضربة "كاراتيه"، فيُخفِقُ ويسقط على الأرض وقد هزمته الجرَّة وجندلته، فيثير الضحك بدلاً من إثارة الإعجاب والزهو والبطش والاقتدار، فليحمدِ الله أنّ رِجلَه لم تعلقْ في أذن الجرَّة كما عَلِق رأس الثور الشهير في جرَّة الحكاية.
حظيت السينما الإيرانية بسمعةٍ حسنةٍ، ونالت أفلامُها جوائزَ عالميةً، وهي أفلامٌ واقعيّةٌ صوفيّةٌ ورومانسيةٌ رقيقةٌ تشبه القصيدةَ في رقَّتها، تنتهي في معظمها بلوعةٍ تشبه العطشَ الذي يقال إنّ الحُسين عانى منه عندما مُنِع من شرب ماء الفرات، فهي أفلامٌ تدفع إلى النوح والحسرة. إنّ ميراث إيران من التفجُّع على الحُسينِ وكربلاءَ (وملكِ كسرى) عريق، وقد انعكس في أفلامها، وقصصها، وأغانيها، وابتهالاتها، ووجدان أهل فارس عموماً، حتّى قرَّ فيها قراراً.
يُلاحظ من متابعة أفضل أفلام السينما الإيرانية أنَّ مُخرِجيها ومُؤلِّفي قصص أفلامها بارعون في التفجُّع وصناعة الحزن واللوعة والحسرة، حتّى أنّ القصص العالمية، مثل قصَّةِ "موت بائع متجوّل" لآرثر ميلر تتحوَّل اقتباساً في الصناعة الوجدانية الإيرانية مشهديةً حسينيةً. وقد وجدتُ من مشاهدةِ أفلامٍ إيرانيةٍ عدّةٍ أنّ صنَّاع أفلامها يحرصون على تلويع عاطفة المشاهدين بالأطفال، فمعظم أبطال أفلامها الشهيرة حائزة على جوائز أطفال، أو هم من أولي الضرر. يقول شارلي شابلن: "إنّ فيلماً بطله طفل وكلب ناجحٌ حتماً". وهي أفلام تذهب بالموجدة إلى أقصاها. في كلّ فلم طيف من الحُسين الشهيد، أحياناً يأتي الحُسين على حصان لإنقاذ ميّت أو مُشرِفٍ على الموت، وتسمع أصواتَ سنابك حصانه وهو يعبر السحاب لنجدة المؤمنين بقدراته الإعجازية. لنقل إنّ سينما إيران هي سينما اللطم بسياط العاطفة.
وقد فوجئ كاتب هذه السطور بأنّ إيران قد أنتجت أفلاماً كوميدية، فهم قوم يضحكون مثل بقيّة الأقوام، وكان يظنُّهم أهلَ ندبٍ وبكاءٍ حتماً مقضياً. خذ فيلم "السحلية" الكوميدي، وهو فيلمٌ مُقتبَسٌ من فيلمٍ عالمي اسمه "مدافع سان سيباستيان"، أو من فيلم "نحن لسنا ملائكة" الأميركي، وفي قصَّته، الإيرانية الاقتباس، يضطر هاربٌ من السجن إلى التخفّي بشخصية إمام مسجد، فيقوم بأفعال مُضحِكة، وللفيلم نسخةٌ عربيةٌ اسمها "الحدق يفهم"، يمثّل فيها كلٌّ من محمود عبد العزيز وهالة فؤاد. إنّ السينما الإيرانية عمودها اللوعة وسنامها البكاء، أمّا أفلامها السياسية في نشرات الأخبار، فهي أفلام كوميدية.
إنّ أفلامَ إيران الروائيةَ رائعةٌ مبكيةٌ مُنيِّحة، أما مسرحياتها العسكرية والسياسية فتنتهي بتحويل المأساةِ ملهاةً مضحكةً.