تمثال فيروز
لا توجد لديَّ مشكلة، بشكل عام، مع الموت.. لكنني، حينما يكون الحديث عن عُمْر السيدة فيروز، أذهب بآمالي إلى وجود إمكانية أن تبقى على قيد الحياة، وألا يحقّ لأحد مناقشة هذا الموضوع.
خطرتْ لي، مرة، فكرة إقامة تمثال لفيروز، في مكان ما من العالم، على حسابي. ولأنني من أصحاب السوابق في الطفر والإفلاس والمديونية، غيّرتُ رأيي، مع أن لهذه الفكرة إغراءً قويّاً، ولا سيما أن فيروز امرأة، ونحن العُربان دَرَجْنا على إقامة التماثيل للرجال، وفيروز من دعاة المحبة والسلام، بينما معظم (الزُّلْم) الذين تُقام لهم التماثيل من المجرمين التاريخيين الكبار، أمثال صدام حسين وحافظ الأسد.
يلجأ المفلسون، أمثالي، من أجل تنفيذ مشاريعهم، إلى بعض المُمَوِّلين، وهؤلاء يحاولون الاستئثار بالمشاريع التي يموّلونها، و(تجيير) ريعها المعنوي لمصلحتهم، وأنا، في الحقيقة، أخاف على اسم فيروز من هبوب النسيم العليل في ليالي الصيف، فكيف أغامر به إزاء ممولين مشبوهين؟
لا أجرؤ على وضع تمثال فيروز، فيما لو أنجزتُهُ يوماً ما، في منطقة يرتادها الأغبياء، لأسباب عديدة، أبْرَزُها أن حناجر العلماء والحكماء والمؤرخين ورجال النهضة، عبر التاريخ، بُحَّتْ من فرط ما شرحوا للأغبياء أن التمثال الذي يصنعه البشر المعاصرون، من أجل الإشادة بالفلاسفة والمفكرين والمبدعين، ليس صنماً؛ وأن البشر المعاصرين لا يعبدون الأصنام، لأن عبادتها أصبحت أمراً مضحكاً.. من دون جدوى، فقد اشتهر الإنسان الغبي بأنك إذا قلت له: هذا تيس.. يرد عليك فوراً: احلبه.
يوم تَعَمَّدَ بعضُ الأغبياء، في الأشهر الأولى لانطلاق الثورة السورية، تحطيمَ تمثال معلّمنا الكبير شاعرِ الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء المعري، كتبتُ على صفحتي متحدثاً عن هذا النوع من الغباء الأسطوري، فَرَدَّ عليّ أحدُهم، زاعماً أن محطمي التمثال ليسوا أغبياء؛ كما تتصوّر! بل له سببان رئيسيان، أوّلُهما أن المعري كان يُقَدِّمُ (العقل)، في فلسفته، على أي شيء آخر، وهذا يُغيظهم، ويُبطل تأثيرهم في الناس، وثانيهما أنه مبدع، وقد قال الأديب محمد الماغوط، يوم سمع أن شخصاً ما طعنَ نجيب محفوظ بالسكين: ما من موهبةٍ كبيرةٍ يمكن أن تمر من دون عقاب.
أصابني هذا التداعي، الآن، بالخوف، وكدتُ أن أتراجع عن فكرة إقامة التمثال... ذلك أن فيروزي، فيروزنا، ليست صاحبة موهبة كبيرة وحسب، بل إن صوتها العذب، وموهبتها العظيمة في الأداء، كانا قد جذبا إليها أصحابَ المواهب الجبّارة من شعراء وملحنين، وجعلهم يتبادعون في حضرتها، حتى أصبحتْ فيروزُ هذه الفيروزَ التي لا نرضى لها أن تموت، فيروزَ التي تُسَلَّمُ مفاتيحُ المدن الكبرى في العالم المتمدّن إليها باليدِ.
في حضرة فيروز، وبفضل صوت فيروز، وإكراماً لروعة فيروز، وُجِدَ، في الثلث الثاني من القرن العشرين، حليمُ الرومي الذي اكتشفها، وأطلق عليها اسم فيروز، في إشارة إلى الحجر الكريم الجميل الصلب الذي كلما تقادَمَ عليه الزمن ازداد بهجة، ولمعاناً، وقيمة، وشأناً، ووُجد المتمردان عاصي ومنصور الرحباني اللذان رفعا شأن صوتها وغنائها إلى حواف النجوم، وسعيد عقل، عبقري الإبداع الشعري، الذي كان يبحث عن جنونٍ يوصله إلى جسر القمر، فوجده عندها.. وزكي ناصيف الذي كان يتدفّق بألحانٍ عذبة، لا يعرف في أي منحدر يُجريها، والسبع فيلمون وهبي الذي يلحّن عروس المجد وإسوارة العروس بذات الانسيابية التي يلحن بها جايبلي سلام عصفور الجناين.
في عيد ميلادك الثمانين، سيدتي فيروز، يؤسفني أن أقول لك إنك ربما زرتِ عالمنا في وقت غير مناسب.. قابلنا غناءَكِ للمحبة ببثّ مزيدٍ من الأحقاد والفتن، ودعواتك للتحرّر بمزيد من الكبت والأمر والنهي، ومديحَك للجمال بجعل القبح يجري في شوارع بلادنا.
ومع ذلك، ابقي معنا فيروز. فلربما نتفهّمك، ونعرف قيمتك، في أيام مقبلة.