تونس .. أزمة حُكْم، حُكَّام أم مَحْكُومِين؟
سواء كانت الأحداث التي حرّكت تونس بين ديسمبر/ كانون الأول 2010 ويناير/ كانون الثاني 2011 ثورة أم انتفاضة شعبية، فإنها شكّلت حدثا مفصليا في البلاد والمنطقة العربية. في فترة قصيرة، أسقطت التظاهرات السلمية نظام زين العابدين بن علي، وحافظت على كيان الدولة ومؤسساتها، وراحت تونس تشقّ طريق الديمقراطية على الرغم من وعورة شعابها. ولكن مع مرور الوقت، وتعاقب ثماني حكومات في عشر سنوات، بدأت تظهر شروخٌ وتصدّعاتٌ على جميع المستويات، ودخلت البلاد في أزماتٍ سياسية، اقتصادية واجتماعية، أبرزت مشكلات بنيوية شبيهة بما يعرقل مسار جلّ دول المنطقة، من القاعدة إلى القمة.
ويجمع خبراء وسياسيون ومواطنون على أن ما يعيق تونس حاليا هو النظام السياسي البرلماني المعدّل، أو شبه البرلماني، الذي أقرّه دستور 2014. ولتفادي استحواذ رئيس البلاد على السلطة، قرّر نواب المجلس التأسيسي آنذاك توزيع السلطة التنفيذية بين رأسين: رئيسي الجمهورية والحكومة. ويرى منتقدو هذا النظام الذي يمنح رئاسة الحكومة جلّ الصلاحيات التنفيذية ويحصر اختصاص رئيس الجمهورية في مجالات الدفاع والأمن القومي والعلاقات الخارجية، أنه يشتت مراكز القرار، ولا ينتج سلطة قادرة على مزاولة الحكم على أكمل وجه. وعلى المستوى التشريعي، منح الدستور مجلس نواب الشعب صلاحيات التشريع والرقابة ومنح الثقة للحكومة وسحبها، لكنه لم يمنح الفائز بالانتخابات عصمة الحكم أيضا.
لا يحظى هذا الانتقاد بتأييد الجميع، إذ يصرّ فريق آخر على أن النظام الحالي يحقق توازنا بين السلطات الثلاث، وأثبت نجاعته في دول ديمقراطية، يقدّم فيها السياسيون مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية أو مصالح أحزابهم، ويلتزمون بمبدأ التعايش والتوافق الذي يحتّمه واجب المواطنة. ويضيف مناصرو هذا الموقف أن معضلة تونس ليست في نظام الحكم، وإنما في الحكّام، في قيادات الرئاستين والبرلمان، وفي قيادات الأحزاب التي أهملت مصالح الشعب وأشعلت صراعاتٍ لا نهاية لها، من أجل الاستفراد بالسلطة أو إطاحة الخصوم والانتقام منهم، بدل استكمال إرساء المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية التي لا تزال معطّلة.
أزمات تونس تؤججها قياداتها ونخبها، بمن فيهم ممثلو المجتمع المدني، كباقي دول المنطقة
ويتصدر الرئيس التونسي، قيس سعيد، جبهة معارضي نظام الحكم والداعين إلى تعديله، إلّا أنه سبق وأقرّ ضمنيا بأن المشكلة في عدم توافق الحكّام، إذ حذّر، قبل ست سنوات، من أن الاختلاف في تأويل بعض الصلاحيات المتداخلة بين رئيسي الجمهورية والحكومة "قد يؤدي إلى تعارض في المواقف، وإلى تعطيل دواليب الدولة، حين يرفض كل طرفٍ موقفا يتبنّاه الطرف الآخر". تحقّق السيناريو الأسوأ الذي تنبّأ به الرئيس سعيد الذي يتهمه الآن رئيس الحكومة، هشام المشيشي، بتعطيل سير دواليب الدولة في ما باتت تعرف بـ"أزمة اليمين الدستورية".
أزمات تونس تؤججها قياداتها ونخبها، بمن فيهم ممثلو المجتمع المدني، كباقي دول المنطقة. ويتجلى ذلك في مبادرة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أحد قادة الرباعي الراعي للحوار والفائز بجائزة نوبل للسلام للعام 2015. يطرح الاتحاد إجراء حوار وطني، يريده إقصائيا في الوقت نفسه، إذ لمّح إلى استثناء من وصفهم بـ "الأطراف المناهضة لمدنية الدولة"، والمقصود بهم، على الأغلب، ائتلاف الكرامة، حليف حركة النهضة الإسلاموية. وفي المقابل، رحبت رئاسة الجمهورية بالحوار، واشترطت، هي الأخرى، استبعاد "الفاسدين" وإشراك الشباب، من دون أن تسمّي الفاسدين بأسمائهم، أو توضح تمثيلية الشباب وآلياتها. أما الحزب الدستوري الحر، الذي يسعى إلى "كنس" الإخوان المسلمين من تونس، فيشترط إبعاد حركة النهضة وائتلاف الكرامة. وهكذا يصبح الحوار مستحيلا، في ظل مبدأ الإقصاء المتبادل، والقفز على شرعية أحزاب منتخبة؛ إقصاء تمارسه الرئاسة والأحزاب والمجتمع المدني، وكشف أسوأ تجلياته تحت قبة البرلمان الذي أصبح ساحة شتم الخصوم وتخوينهم وشيطنتهم، إلى أن تحول العنف اللفظي إلى تشابك بالأيدي والضرب والجرح وكسر الأيادي والأرجل.
وحين يحتدم صراع المؤسسات، عادة ما تلجأ الدول الديمقراطية إلى الشعب لحسم الأزمات، عبر تنظيم استفتاءات أو انتخابات مبكرة. وقد أصبح هذا الخيار مطروحا في تونس أيضا، بغية تغيير شكل النظامين، الانتخابي والسياسي، والمرور ربما إلى الجمهورية الثالثة. وهنا السؤال: هل من شأن الانتخابات أن تفرز واقعا مغايرا؟ أليس الشعب جزءاً من المشكلة، بل ربما أساسها؟ ألم ينتخب الشعب، منذ الثورة، قياداتٍ تهيمن عليها أحزاب شعبوية دينية، تمثلها حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وأخرى علمانية، لا تقل عنها شعبوية، ويقودها اليوم الحزب الدستوري وحزب قلب تونس؟ ألم ينتخب الشعب رئيسا بلا خبرة أو برنامج، تفوّق في شعبويته على الجميع؟
الشارع التونسي، كمعظم الدول العربية، ما يزال يؤيد الإسلاميين، ويدعم، في الوقت نفسه، أحزابا تحوم حولها شبهات الفساد، وأخرى تتباهى بولائها للنظام البائد
بانتخابها قيس سعيد رئيسا للبلاد بنسبة تفوق 70%، اختارت شرائح عريضة من الشعب التونسي خطيبا فصيحا ومتوهجا، يحيط به الإبهام والتناقض. المهووس بالشعب يرفض أن يخاطب الشعب بلغته. رشّح نفسه للرئاسة وهو يقرّ بأن ليس لديه برنامج للحكم، بحجة أنه لا يريد "بيع أوهام". تفاعلت فئة عريضة من المواطنين، يغلب عليها الشباب، مع خطابه الشّعبوي الذي ردّد شعارات "الشّعب يريد، الشّعب يعرف ما يريد، والشّعب يقرر ما يريد". ويصر سعيد على أن الشعب التونسي واعٍ بأولويات المصلحة العامة، وقادر على تسيير نفسه بنفسه، وقادر على تدبير الشأن العام في إطار تنظيم مجالسي يصعد من الحكم المحلي إلى الجهوي ثم إلى المركزي؛ تنظيم تختفي معه الأحزاب، وتُلغى الانتخابات وتُحل المؤسسات التمثيلية، في حين يبقى الرئيس فوق الجميع، المنتخب الوحيد بالاقتراع المباشر، يتمتع بصلاحيات تعيين رئيس الحكومة وعبره أعضاء الحكومة غير المنتخبين.
اشترت فئة عريضة من الشعب وهم ديمقراطية قيس سعيد التي تجمع بين مجالس أثينا ومواطنة السويد، في بلاد حديثة العهد بتجربة الديمقراطية. رأى فيه بعضهم ثورة تشي غيفارا وعدل عمر بن الخطاب، المنقذ الذي سيخلصهم من النخبة السياسية "الفاسدة" و"العاجزة" وأحزابها وإعلامها، في حين أن مشروعه لا يعدو أن يكون نسخة منقحة لمشروع "جماهيرية ليبيا الشعبية العظمى" الفاشل، ولا ينقصه إلا كتاب أخضر. انتخب الشعب سعيد، وأغلب الظن أنه لم يكن يعلم أنه يستحيل أن يتحقق مشروعه الطوباوي، في ظل وجود نظام حكم شبه برلماني، اللّهم إذا جرّ الشباب الثائر الذي يغازله الرئيس باستمرار إلى الانقلاب على النظام، وتسليمه مفاتيح دكتاتورية جديدة.
واقع الحال أن شعبية الإسلاميين لم تتراجع أيضا، فما زالت حركة النهضة التي تعطّل الحكم بمناوراتها السياسية تتمتع بخزان انتخابي واسع ومستقر، بل إن القاعدة الإسلاموية قد اتسعت، وتقوّت بوجود "ائتلاف الكرامة" المتطرّف. الشارع التونسي، كمعظم الدول العربية، ما يزال يؤيد الإسلاميين، ويدعم، في الوقت نفسه، أحزابا تحوم حولها شبهات الفساد، وأخرى تتباهى بولائها للنظام البائد. واقع الأمر أنه في تونس، مثلما الحال في دول "الربيع العربي" التي رفعت شعار الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، لا تمثل القوى التقدمية إلا نفسها ونخبها. ويكفي النظر إلى نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لإدراك هامش تمثيلية اليسار الهزيلة في تونس ما بعد الثورة. الأسوأ، أن هذه القوى ذاتها أبانت عن انخراطها في منطق الإقصاء وخطاب الكراهية.
قيس سعيد مهووس بالشعب ويرفض أن يخاطب الشعب بلغته. رشّح نفسه للرئاسة وهو يقرّ بأنه ليس لديه برنامج للحكم
بعد أن اشتد، أخيرا انتقاد الاحتجاجات الليلية التي تخلّلتها اعتداءاتٌ على ممتلكات المواطنين، حاولت قوى اليسار تدارك الموقف، ونظّمت، في وضح النهار، احتجاجات في العاصمة تونس. كانت أبرزها مظاهرة 30 يناير التي شاركت فيها حركات شبابية طلابية، ومنظمات حقوقية، وناشطات نسوية، ندّدت بعنف الشرطة، وطالبت بإطلاق سراح محكومين وموقوفين في الاحتجاجات. الصادم في هذه التظاهرة أنها رفعت شعاراتٍ تطعن في رجولة أفراد الشرطة وتنعتهم بـ "الديوثين". وأظهرت أحد هذه الفيديوهات فتياتٍ يقفن أمام أفراد شرطة مكافحة الشغب، يردّدن الشعارات نفسها، يتحرّشن بهم جنسيا، ويسخرن من ذكوريتهم بألفاظ بذيئة، في محاولةٍ قيل إنها ابتغت "كسر السلطة الذكورية". أخطأت الناشطات النسوية، ومن ساندهن، في تحويل الصراع ضد السلطة واستبدادها إلى صراع جندري، يحقّر الرجال، ويتبنى السلوكيات الذكورية نفسها التي طالما انتقدتها.
وكما كان متوقعا، ردّت نقابة الأمن على هذا الانحراف بانحرافٍ أكبر، إذ نظمت في مدينة صفاقص وقفة احتجاجية شتمت اليسار، الشيوعيين تحديدا، ووصفتهم بالجبن والشذوذ والعمالة والإلحاد. ويشكل خروج مؤسسة الأمن عن حياديتها وتوظيفها السياسي العمل النقابي تطورا خطيرا يهدد أمن المجتمع، مثلما هدّدته حركة النهضة، حين دعت أنصارها إلى التصدّي لعنف الاحتجاجات. وفي مثل هذه الأزمة، كان من المفترض أن تقف "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" على المسافة نفسها من الجميع، بصفتها أعرق منظمات المجتمع المدني في تونس والمنطقة، وأحد قادة الرباعي الراعي للحوار والفائز بجائزة نوبل للسلام للعام 2015 أيضا. كان عليها أن تندّد بالتطرّف النسوي، وتحذر من خطر الانحراف الجندري لمظاهرة اليسار، مثلما ندّدت بـ "انحراف بعض النقابات الأمنية". للأسف، لم تتوفّق في موقفها، وركبت موجة اندفاع الطرفين وتهوّرهما، فأصدرت بيانا ناريا ومتحيزا لليسار، قالت فيه "إن منسوب الحقد والبذاءة والتحقير والإهانة الموجه رأسا إلى قوى فكرية وإيديولوجية بعينها، وإلى فئات شبابية وحقوقيين ومحامين وصحافيين ومصورين وناشطين بالمجتمع المدني، يكشف عن نزوع فاشي، يدفع هؤلاء ويجعل منهم قوة وعصابة مليشيوية خارجة عن القانون، تهدد السلم الاجتماعي والدولة والنظام الجمهوري".
ترسّخت ثقافة إلغاء الآخر، وأفرزت الواقع المتصدّع الذي طفا على السطح بعد "ثورة الياسمين"
إطلاق وصف "مليشيا" و"عصابة" على رجال أمن نظاميين، ووصف تجاوزاتهم بأنها نزعة "فاشية"، خطاب تحريضي، يصب الزيت على النار، ويُبرز هشاشة المجتمع المدني، ويشكّك في قدرته على الرفع من وعي الشعب والنخب، على حد سواء، بواجب المواطنة الذي يقوم على مبدأ التعايش ورفض إلغاء الآخر. ولكن منطق الإقصاء الذي يطغى على المشهد التونسي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى إرثٍ تاريخي تواصل بعد الاستقلال، عبر نظام الحاكم الواحد، المستبد المستنير، والحزب الواحد الذي شنّ حربا على المجتمع التقليدي باسم تفوّق الدولة العلمانية على "ظلامية" القوى الدينية. لعقود، تعايش المجتمع التونسي مع إقصاء النظام معارضيه والتضييق عليهم سياسيا وحتفهم إعلاميا، حتى ترسّخت ثقافة إلغاء الآخر، وأفرزت الواقع المتصدّع الذي طفا على السطح بعد "ثورة الياسمين"، وعلى الرغم مما تخلّلته العشرية الماضية من تحالفات وائتلافات، ومحاولات نهج التعدّدية ثقافة بديلة.
كباقي دول المنطقة، يفتقر المجتمع التونسي، بقياداته ونخبه وقاعدته، إلى ثقافة الوطن والمواطنة، ويعيش أزمة حكم وحكام ومحكومين، غير راغبين أو غير قادرين على تغليب ثقافة الاختلاف، والتعددية والتآلف الاجتماعي على منطق القبيلة والطائفة والأمة والحزب والجندر أو الحاكم الواحد الأوحد. ومع هذا، ما لم تنزلق هذه الصراعات إلى دائرة العنف، سيبقى هناك أمل أن تظل تونس ذلك الاستثناء الذي نتطلّع إليه.