تونس لا تحتاج إضراب جوع
يصحّ على تونس ما يُقال عن غيرها: أحد أبرز أسباب نجاح قيس سعيّد في انقلابه هو تشتُّت المعسكر المقابل له، مثلما أن أحد أهم عوامل بقاء بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي في الحكم التصحّر الذي تعيشه ساحة معارضيهما. منذ سقوط الاستثناء التونسي في 25 يوليو/ تموز، بقيت مذهلة درجة تفتّت معارضي انقلاب تحالف الجيش والرئيس. بدأت المرحلة بخوف عام أسر الناس في بيوتها فترة. ثم ارتجفت حركة النهضة وسمّت انقلاب سعيّد بأنه يمكن أن يكون خطوة تصحيحية. وفي حقبة ثالثة، انفصل معسكر يساري وعلماني عن ارتكابات قيس سعيّد بعدما ساد الصمت أوساطه مؤقتاً، ربما فرحاً بإزاحة الغالبية التي يملكها الإسلاميون في البرلمان. وظل الثابت بين كل المراحل تلك، الموقف الملتبس للاتحاد العام للشغل، فائق النفوذ والتأثير على ما تخبرنا التجربة التونسية منذ ما قبل الاستقلال. ملتبسٌ رغم أنه مبدئي ضد تفرّد شخص واحد في السلطة، وضد إطاحة النظام السياسي والدستور، لكنه في المقابل يرى في حل البرلمان وإزاحة الأحزاب الحالية فرصةً إيجابية. أما السمة العامة لما بعد الانقلاب، فبقيت عدم انتظام المعارضين، أحزاباً ونقاباتٍ وشخصياتٍ اعتبارية ومناضلين، في إطار واحد، سيظل حراك "مواطنون ضد الانقلاب" قاصراً عن تجسيده، لأنه ليس جبهة سياسية، بل أقرب إلى مبادرة شعبية مفتوحة، في حين أن ما تحتاجه تونس من أجل محو وصمة العار الشعبوية التسلطية التي تعيشها أكبر بكثير من المبادرات.
حراك "مواطنون ضد الانقلاب"، تمكّن من ملء فراغ ولو بشكل نسبي. نظّم اعتصاماتٍ وتظاهرات عديدة أعادت الناس إلى الشوارع. وسمحت جرأة الوجوه البارزة في الحراك بفكّ الألسن، فصارت تسمية ما أقدم عليه قيس سعيّد والجيش انقلاباً أمراً شائعاً، بعدما كاد المصطلح يختفي وتحل مكانه مناورات لغوية من صنف "الإجراءات الاستثنائية". وجود حراك "مواطنون ضد الانقلاب" كان إيجابياً، لكن سرعان ما خرجت عنه قرارات ومبادرات يُخشى أن يكون مفعولها كتأثير الضرب في الصخر، مثلما يُخشى أن يكون إعلان الإضراب عن الطعام، يوم الخميس الماضي، هدراً لطاقاتٍ يجب أن تبقى شبعانة لكي تناضل ضد الانقلاب، بدل أن تجوع وتتساقط، مثلما بدأ يحصل بالفعل.
ليس الإسهاب أعلاه تقليلاً من قيمة الإضراب عن الطعام، لكنه ربما يجدي في التذكير بشروط قد لا توفرها الحالة التونسية لمعركة أمعاء خاوية. الإضراب عن الطعام هو آخر وسائل النضال. هكذا كان تاريخياً وهكذا يبقى. ببساطةٍ، لأنه شكل من أشكال التضحية بالحياة عندما تُسدّ كل الأبواب. لذلك، غالباً ما كانت السجون المكان الأكثر احتضاناً لمعارك الأمعاء الخاوية، منذ ظهورها، وهي من أقدم وسائل الاحتجاج والنضال في تاريخ اجتماع البشر. يتوقف السجناء عن تناول الطعام والسوائل، لأنهم يكونون مجرّدين من أهم ما لديهم، حريتهم، أي لا يكون لديهم الكثير ليخسروه. هذه الشروط لا تنطبق على الحالة التونسية اليوم، ذلك أنه رغم فداحة ما يحصل منذ الانقلاب، فلا تزال الأحزاب موجودة والإعلام موجودا نسبياً، وحرية الحركة والتعبير والتجمع والاجتماع كلها متوفرة وإن جزئياً. ثمّ إن الإضراب عن الطعام يشترط أولاً جذب اهتمام العالم واستعداد هذا العالم لكي يتصرّف. هكذا كان الحال مع أشهر المضربين عن الطعام، من غاندي إلى أفراد الجيش الجمهوري الأيرلندي والمعتقلين الفلسطينيين، وهو ما كان متوفراً في حالات الإضراب الطويلة عن الطعام في تونس، البلد العربي الأشهر ربما، من بعد فلسطين، في هذه الأداة الاحتجاجية ــ النضالية. هذا الشرط أيضاً، أي اهتمام المجتمع الدولي، غير متوفر في السياق التونسي اليوم.
ما تحتاجه تونس ليس أن تخسر جهود مضربين عن الطعام، بل اتحاد المعارضين في جبهة سياسية منظّمة شعارها واحد: استعادة السياسة والعمل بالدستور وبالديمقراطية وتحرير المؤسسات من حاكم شعبوي متحالف مع الجيش. وقبل ذلك، جدير بالتونسيين عدم نسيان أن من يرغبون بالتخلص من تسلطه ومن أمراضه ومن شعبويته لا يستحق أن يخسروا حياتهم وصحتهم بسببه.