"تيك توك" تخرق العلاقات الدولية بين الصين والغرب
تتوالى مطالبات المسؤولين الحكوميين في الولايات المتحدة، ومفوضية الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وكندا، بحذف تطبيق تيك توك من أجهزتهم الحكومية، وتتزايد عمليات الحظر، وجديدها أخيراً منع البرلمان البريطاني استخدامه على أجهزته، وصولاً إلى فرنسا، التي قرّرت حظر استخدام مليونين ونصف مليون موظف حكومي التطبيق، قبيل زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الصين... تقلق الشبكة الاجتماعية العالم الغربي، تموّه على العالم وعلى الكونغرس، فقد لجأت أميركا وحلفاؤها الغربيون إلى حظر أن يستخدمه العاملون في القطاع العام، وذلك كله على خلفية استخدام الصين التطبيق للدعاية والتجسّس، مع أثر ذلك على رسم الاقتصاد الجيوسياسي والأمني الجديد. تُتّهم الشبكة الصينية بالتجسّس على المستخدمين، وأن موظفيها العاملين في بكين يعملون حالياً لمصلحة الحكومة الصينية، الأمر الذي أزعج وزارة العدل الأميركية التي فتحت تحقيقاً واسعاً في ممارسة الشركة الأم "بايت دانس"، التي تتعرّض لضغوط كبيرة غربية على خلفية استخدام التطبيق على خط التجاذب الأميركي ــ الصيني، واعتبار المنصّة "سلاحاً بيد الحزب الشيوعي الصيني"، وسلاحاً في المعركة التنافسية، ومؤشّراً على "بوادر حرب تكنولوجية باردة بين القوتين الجبارتين"، ما يهدد الأمن السيبراني، وهذا أولوية قصوى بالنسبة إلى البرلمانات الأوروبية.
جمع الموقع 150 مليون مستخدم أميركي، وهو التطبيق الأكثر تمثيلاً بين عامي 2021 ــ 2022. واحد من ثلاثة أميركيين يستخدمونه، يحمّلونه على هواتفهم، وهو تطبيق غير أميركي، يكتسح ويتنافس مع شبكات "الغافا"، أميركية النشأة. وبعد خمس سنوات على إنشائه، أصبح أكثر إدماناً من المراهقين في سنّ الحلم والاستيهامات الذهنية والعاطفية. ولكن خارج السيطرة التكنولوجية الأميركية، أسوةً بما تفعله المنصّات الأخرى، مثل "فيسبوك"، "تويتر"، "أنستغرام"، و"يوتيوب"...، ويخضع مثلها لحماية "القانون الفيدرالي"، لكنه يضم، في نظر المشرّعين الغربيين "المحتوى الخطير والمهدد لحياة الأطفال الأميركيين". التجاذب قائم بين مساعي الرئيس التنفيذي للتطبيق شو تشينو، لإقناع الأميركيين ومشرعّيهم بأن التطبيق ينشئ قيمة اقتصادية، (أنفقت الشركة من خلال الإشراف على المحتوى مليار دولار عام 2021 على الثقة والأمان، كأكثر نفقات عمالة)، ويدعم حرية التعبير. وإذ يعد بحماية بيانات المستخدمين الأميركيين، والحفاظ على أمان المراهقين، والبقاء بعيداً عن النفوذ الحكومي الصيني، ثمّة قلق غربي من الخطر الآتي من الصين، في موضوع استغلال بيانات المستخدَمين، وتاثير التطبيق بآراء المواطنين وتوجهاتهم، ونقل المعلومات المضللة والزائفة وسيلة من مجموعة الأجهزة المخابراتية المدنية التي تعمل خارج الحدود، والتي تملك مهماتٍ ثلاث: التجسّس، البحث عن المعلومات، التدخّل في الأمور الداخلية وزعزعة الاتستقرار الاجتماعي، وهو ما انتهجته شبكات التواصل الاجتماعية ذات النشأة الأميركية نفسها.
تنافس شبكة تيك توك، بسرعة انتشارها، السيطرة الكلية والهيمنة على الأنساق التواصلية
كأنه بفضل التقدم التكنولوجي، أصبحت هذه الوسيلة أقوى بكثير من قبل، أيام التجسّس الصناعي في التسعينيات. لجأت الصين منذ وصول دينغ شياو وبينغ إلى السلطة عام 1978 إلى الطرق اليابانية، وذهب آلاف الطلاب الصينيين للالتحاق بأفضل الجامعات الغربية بغية الوصول إلى حلقات البحث المتطوّرة، وتعلم الملاحظة وتصوير كل شيء، وإرسال الصور إلى البلد الأم. واتهمت الولايات المتحدة الصين بسرقة معلومات نووية مهمة (تقرير كوكس الشهير)، الأمر الذي سبّب تسميم العلاقة بين البلدين عام 1991. من نافل القول إن الولايات المتحدة تملك الوسائل الأكثر فعالية في العالم في هذا المضمار، رغم الاتهامات التي توجهها إلى كل الدول الأخرى تقريباً، ولا سيما هذا النوع من التجسّس العالمي الجديد، وقد دخلت حرب الشبكات في صلب الاقتصاد والثقافة، في جو من الغموض والتشويش، سلطة إعلامية تحلّ محل السلاح، من دون منظومة فكرية، أو سياسية، أو ثقافية، والخطر أن القطاع المدني هو الذي يقوم بقيادة هذه التكنولوجيات ويطوّرها، ويتمتّع بسرعة الانتشار والفعالية.
تعتبر أميركا أن القوة اللينة من الآليات المقرّرة في الفوز في الحرب بالقدرة على زيادة الهوّة المعلوماتية والمعرفية مع الصين، وهي معركة "الجيو ــ تكنولوجي"، التماثل في قوة الشبكات، قنوات الإعلام، الأقمار الصناعية، الذكاء الصناعي، الصور، والاتصالات، بخلاف جيوبوليتيك ماكندر وهاوسهوفر التي كانت تربط ما بين القوة والأمن داخل الحدود الوطنية، مع تطور العلاقة بين المساحة والسياسة (عودة إلى هيرودوت الإغريقي 482 ق. م). الصين مستفيدة من هذه القدرات الإنتاجية بوتائر متسارعة، تتبع أيديولوجية "التنويع الصيني" في مجال بثّ المعلومات وتوزيعها. وتعكس هذه القدرة رغبة في منافسة التكنولوجيا الأميركية.
دخلت العولمة في مرحلة خطرة، قد تترك آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي والاستقرار السياسي في بلدانٍ عديدة
تنافس شبكة تيك توك، بسرعة انتشارها، السيطرة الكلية والهيمنة على الأنساق التواصلية. هي منتج صناعي لحرب الرأسمالية في أكثر القطاعات حساسية (الإنترنت) وهيمنة شركاتها المالية في البورصات العالمية برأسمالٍ يعادل الناتج القومي لكل من الصين وألمانيا (10 تريليونات دولار)، إلى التأثير غير المباشر بالسياسة. الحصول على هذه السلطة يسهل كثيراً حيازة السلطة الاقتصادية والسياسية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الديمقراطية التي يرفع شعارها الرئيس الأميركي جو بايدن، في مواجهة الروسي في غزوه أوكرانيا (المتهم بفضيحة "كامبريدج أنالتيتكيا 2018، وبتدخّله في الانتخابات الرئاسية، وعملياً نجح في إيصال الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض). وتعيد هذه السلطة إحياء الفلسفة الحمائية، والعودة إلى ما قبل العولمة نهاية القرن التاسع عشر، ما يُدخل الليبرالية في النفق مع التقدّم الذي حقّقته الصين في المجتمع المعلوماتي، والعولمة التي دخلت في مرحلة خطرة، وقد تترك آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي والاستقرار السياسي في بلدانٍ عديدة، وتعطّل الميتافيزياء الشمولية.
ثمّة حيرة وارتباك بشأن التطبيقات الاجتماعية، وسطوتها وسلطتها في نشر القيم والأفكار، وتحوّل المجتمعات الحداثية إلى ما بعد استهلاكية، إلى صنوفٍ من العنف وإرهاب الصورة: الألوان الغنائية السهلة، وفنون التسويق الشعبية، وصناعة النجومية، كتّاب ومطربون وطباخون ومهرّجون ... هي فوضى الخوارزميات والأمزجة المختلفة والمتصارعة ترسم كل بروفايل الإنسان، والمشاهدات، والملاحظات والتحليلات، والمسوّدات والتصميمات، والمشاجرات العالمية، على مسرح المواجهة الثنائية، وتستثير الفضول التذوقي وتعارضاته، إذ تحلّ محلّ الثقافات القديمة، واضطراباتها في الواقع المهجوس باللاعقلانية واللامنطقية، في معنى العالم غير المستقرّ، والاستقطابات المأزومة بين واشنطن وبكين.