ثرثرة غبية بين مدريد وقزوين
حين كنّا أطفالاً، ولم يكن هناك لا إنترنت ولا وسائل إعلام عابرة للقارّات، كان مجرد اكتشاف عبارة لسياسي أو قائد عسكري، عربي أم غير عربي، يُعدّ إنجازاً لنا. ففي مكانٍ ما، مثل هذه الاكتشافات تعني أننا اكتسبنا معرفة إضافية على دربٍ ثقافي. لذلك، فإن كلمات لأشخاص تحت مسمّى "أقوال مأثورة"، تبقى عالقة معنا إلى الأبد، وتصمُد أمام أي غزو للنسيان في مرحلة ما مستقبلاً.
في مدريد الإسبانية، بدت ثرثرة بعضٍ من زعماء الدول السبع أشبه بمحاولة فاشلة لإثارة ضحك الجمهور. ولم يكن غريباً، قياساً على شخصيته المندفعة، أن يبدأ رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، هذه الثرثرة بسؤاله ما إذا "كان عليهم خلع السترات وما تحتها أيضاً". بهذه العبارة، كان جونسون يريد "كسر جليدٍ ما" لتجاوز الخلافات التي لا تنضب بين هذه الدول، عبر توحيد الجبهة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم يكتفِ جونسون بهذه الافتتاحية، بل واصل: "يجب أن نظهر أننا أشدّ بأساً من بوتين"، ما دفع بعض الزعماء إلى الضحك. ويقصد جونسون، هنا، الصور التي دأب فريق عمل الرئيس الروسي على نشرها لبوتين، رجلا عاري الصدر، يسبح في مياه سيبيريا الباردة، ويقود حصاناً عبر مجاري الأنهر، ويصيد السمك ويقود سيارة للفورمولا 1، وغيرها من المشهديات التي يُراد منها تصوير سيد الكرملين بأنه شخص قوي ذو عزيمة لا تلين. وغنيّ عن التعريف أن كل صورة من هذا النوع تشرح الكثير عن الضعف الداخلي للإنسان، عكس ما يريد إظهاره من خلالها. وكثافة الصور هنا تعني الكثير عن رجلٍ يريد الإيحاء بأنه الأقوى على وجه الأرض.
تتواصل ثرثرة مدريد. يردّ رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على جونسون بالقول بصوت مرتفع إن علينا "ركوب الخيل بصدر عار". وهو أمر لاقى تفاعلاً إيجابياً من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي وصفت هذه الرياضة بأنها "الأفضل". ولم تقف الأمور هنا، بل ردّ الرئيس الروسي عليهم جميعاً، خلال مشاركته في قمة بحر قزوين في تركمانستان، وقال بنبرة تقليدية معروفة عنه: "لا أعرف ما إذا كانوا يريدون خلع ملابسهم حتى الخصر أو تحت الخصر، لكنني أعتقد أنه سيكون مشهداً مثيراً للاشمئزاز في كلتا الحالتين".
هذا النوع من العبارات بين ثماني دول واتحاد أوروبي يُظهر، في زاويةٍ ما، ضحالة فكرية في منطق التعاطي بين الأفراد والدول. وكأنهم جميعاً مراهقون على مشارف المرحلة الجديدة من حياتهم. في مثل هذا السنّ، مغفورة خطايانا باسم التطوّر. يمرّ المراهقون بحالات طبيعية من اكتشاف الفكر والذات. ويتعلّمون من الأخطاء لبناء مستقبل أفضل، أما من يبقى مراهقاً مدى العمر، خصوصاً في إطار تكرار الأخطاء، فلا عتب عليه.
كما أظهرت هذه الثرثرة أن القادة في مدريد بدوا كأسوأ نسخة حداثوية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) من طبقةٍ وسطى أو ثريةٍ من عالم غربي تائه بين رأسمالية عشوائية وليبرالية متقدّمة. في المقابل، ظهر بوتين كطفلٍ تعرّض للتنمّر، لكنه يعشق المجموعة التي تنمّرت عليه، خصوصاً بقوله "أعرفهم جميعاً شخصياً". وهي عبارة تحمل أوجه حنين كثيرة للقاءات سالفة بينه وبينهم، أو مع أسلافهم.
وفي مقابل كل هذا الغباء المتناثر بين المتوسط وقزوين، كم يبدو تافهاً الحديث عن الأمن الغذائي والاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد وتأمين مصادر الطاقة وديمومتها. تخيّلوا أن هؤلاء المنشغلين بهذا النوع من الجدال هم من سيقرّر ماذا نريد لإكمال مسيرتنا البشرية في كوكبٍ معرّض لاهتزازاتٍ لا تنتهي. صحيح أنه لا يُمكن إجراء مقارنة مع قادة في أزمنة ماضية، لكن الأكيد أن الجيل العتيد من القادة في الغرب والشرق لن يكون مثل مجموعة مدريد ولا مثل قيصر موسكو.