ثقافة القتل في سورية
كان مستغرباً ومفاجئاً لكثيرين متابعين للثورة السورية في سنواتها الأولى، عشرات مقاطع الفيديو التي تُظهر عمليات القتل والتعذيب والشراسة في قتل المتظاهرين. والمستغرب أكثر، أن تلك المقاطع المصوّرة كانت تخرج من داخل أقبية الاستخبارات السورية ودهاليزها، ومن مراكز اعتقال تخضع لرقابة صارمة ومشدّدة من رجالات الأسد وقادته، في مقرّاتٍ ومعتقلاتٍ حتى خيوط الشمس لا تستطيع التسلل إليها من دون إذنهم. ولدى سؤال أطرافٍ في السلطة الاستخباراتية التي كانت تسرّب بعض الأسرار، علمنا لاحقاً أن القيادة السورية وقادة أفرع الاستخبارات السورية كانوا على معرفة واطلاع كاملين بتسريب تلك "الفيديوهات"، بل هم من كان يسرّب تلك المشاهد إلى الخارج، بقصد توجيه رسالة واضحة إلى طائفة النظام المتردّدة بحسم موقفها (بين متابع مؤيد متمسّك بكرسي حكم نظام الأسد المهدّد بالسقوط حينها، حتى لو كلفه هذا الموقف الابتعاد عن بقية السوريين، ومن يجد ملاذه الطبيعي مع كل السوريين والتخلص من هذا النظام)، وأن الغاية من المشاهد المقززة لتعذيب السوريين وقتلهم، المسرّبة من أجهزة الاستخبارات السورية، حسم المواقف المتردّدة للطائفة، وإيصال رسالة مفادها بأن كل طائفة بشار الأسد أصبحت مجرمة في نظر بقية المكوّنات السورية، وأن الجرائم التي شوهدت من الجميع لن تجعلهم يتسامحون معكم، لأنكم أصبحتم شركاء في قتلهم. وللخروج من هذا الواقع، يجب رصّ الجبهة الداخلية للطائفة، ولكل من بقي يقاتل إلى جانب النظام، وإما أن نتجاوز المرحلة معاً أو نلقى مصيرنا المحتوم. وبهذا الشكل، استطاع النظام شد عصب معظم حاضنته الطائفية وربطها بكرسي الحكم، ومعها انطلقت ثقافة الموت وثقافة القتل بين عناصره وشبّيحته، وخصوصا ما تسمّى مليشيات الدفاع الوطني التي شكلت دولة داخل الدولة، واستفردت بجرائمها وتجاوزاتها من دون سيطرة، ومن دون أدنى مركزيةٍ في عملية اتخاذ القرار.
للمجزرة في حيّ التضامن شبيهاتها في كل أحياء دمشق المنتفضة على نظام الأسد. ولا يختلف ما حصل ويحصل في دمشق عمّا فعله شبّيحة النظام في كل المدن والأرياف السورية. وفي زنازين النظام معتقلون ذاقوا كل أنواع العذاب، غير أن هذا كله يبقى تفاصيل صغيرة بين ما ارتكبه هذا النظام بحق الشعب على كامل الجغرافيا السورية.
في عام 2015 كانت فصائل الجيش السوري الحر على مقربةٍ من معتقل بلدة الشير في ريف محردة التابعة لمحافظة حماة، الذي تديره مجموعة من مليشيات الدفاع الوطني بقيادة الرجل الأخطر والأشهر في ريف المحافظة، سيمون الوكيل. ولكن خشية الفصائل كانت وقوع قتلى داخل السجن، إذا ما حدثت عمليات قصف أو اشتباكات لتحريرهم وهم عزّل داخل المعتقل، غير أن رسالة من سجين داخل المعتقل أربكت قادة الفصائل، فمن هول العذاب الذي كان يتعرّض له المعتقلون في سجون النظام وفي معتقل الشير، طالب هؤلاء بقصف السجن، حتى لو سبّب مقتلهم، فالمهم بالنسبة إليهم أن يتخلصوا من عمليات التعذيب والتنكيل التي يتعرّضون لها، حتى لو كان الثمن مقتلهم.
من حق السوريين العتب واللوم على كل قادة العالم الذين أذهلتهم وفاجأتهم مجزرة التضامن
جريمة حيّ التضامن التي أذهلت العالم، ليس فقط لحجم القسوة في مشاهد سَوق 41 من المدنيين نحو حفرة لقتلهم، أو لحجم الإجرام الذي يتفاخر فيه بطلها، أمجد يوسف، ورفاقه من شبّيحة الأسد، بل أذهلت العالم بالهدوء والسكينة التي تحملها قلوب هؤلاء القتلة، وهم يرتكبون الجريمة، ومقدار راحة البال التي يتمتع بها هؤلاء الذين استرخصوا أرواح بشرٍ، فقط لأنهم قالوا "لا" لنظام الأسد الرهيب بالأمر أيضاً، ومن خلال تتبع مشاهد الإعدامات التي حملتها مجزرة التضامن أنها لم تكن لمعتقلين، ولا لمساجين، فالمعتقلون والسجناء لدى أجهزة أمن نظام الأسد، بحسب خبراتنا مع عمل تلك الأجهزة، تكون ظاهرة عليهم ملامح هزالة الجسد وآثار التعذيب، ولكن أجسام من قتلوا في مجزرة حيّ التضامن سليمة، ولا آثار للتعذيب عليهم، وهذا يعني أنهم تعرّضوا للاعتقال التعسفي الذي تمارسه سلطات الأسد عادة على الحواجز داخل أحياء المدن السورية، أو اعتقلوا من بيوتهم ثم جرت تصفيتهم مباشرة بتلك الطريقة الوحشية، حتى دون مسرحيات المحاكم الصورية التي اعتاد نظام الأسد تقديمها للشعب السوري في بعض الأحيان. والمؤلم في تلك الجريمة أن من جرت تصفيتهم اقتيدوا معصوبي العيون إلى مواقع حتفهم في تلك الحفرة الرهيبة، وأن من قتلهم استصعب عملية حملهم بعد قتلهم، لذلك تخلّص منهم على حوافّ تلك الحفرة بعد أن ساقهم إليها، وقد تكون انهالت عليهم الأتربة لإخفاء الجريمة، وهناك من لا يزال من بينهم على قيد الحياة، وقد دُفنوا أحياء.
مجزرة التضامن واحدة من آلاف المجازر التي ارتكبتها أجهزة الاستبداد في نظام الأسد، من مجازر قصف ومجازر براميل ومجازر أسلحة كيماوية وسياسة أرض محروقة، وحصدت كلها أرواح عشرات آلاف السوريين، وستبقى في نفوس السوريين، ما دام نظام الأسد في السلطة، وستؤسس لحقد بين مكونات السوريين لن تزول قبل أن ينال المجرمون ما يستحقونه من حسابٍ عبر قضاءٍ عادل.
ولكن، لو تتبعنا انتشار خبر مجزرة التضامن، لن تجد سورياً واحداً فوجئ بتفاصيل الجريمة، لأن الشعب السوري عايش العشرات من تلك الجرائم التي ارتكبها شبّيحة النظام بحقّ السوريين على مدار سنوات الثورة وحتى ما قبلها، وشاهد هذه الجرائم وسمع عنها. وقد أتقن هؤلاء الشبّيحة وامتلكوا ثقافة القتل والإجرام التي زرعها نظام الاسد، وصنعتها أجهزته الأمنية في عقول مؤيديه. فمن شعار "الأسد أو نحرق البلد"، إلى شعارٍ يمنح الأسد صفة الألوهية، إلى قول ماهر الأسد: "استلمنا السلطة في سورية وتعداد سكانها سبعة ملايين نسمة وسنعيدها كما استلمناها". ويعطي ذلك كله مؤشّرات واضحة وجلية على عمق تجذّر الجريمة ومفاهيم القتل في نفوس تلك الحفنة التي يأسف السوريون أن هناك اليوم من يحاول إعادة وصل العلاقة معهم، أو فتح صفحة جديدة وتجاوز الجرائم التي ارتكبوها.
يأمل السوريون أن تكون مشاهد مجزرة التضامن صرخةً توقظ قادة الغرب للعودة إلى الوقوف إلى جانب شعب دمّره الأسد
أيضاً، من حق السوريين العتب واللوم على كل قادة العالم الذين أذهلتهم وفاجأتهم مجزرة التضامن، وأن يذكّروهم بمناشدات وصيحات عديدة أطلقوها إليهم، وهم يحذّرون من إجرام هذا النظام، لكن العالم بقي متفرّجاً أو مشكّكاً في رواية السوريين، حتى عندما ارتكب نظام الأسد مجزرة السلاح الكيميائي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، متجاوزاً آخر الخطوط الحمراء التي حدّدها الرئيس الأميركي، في حينه، باراك أوباما. ما حصل أن العالم الحرّ اكتفى بسحب سلاح الجريمة، وترك المجرم طليقاً ليكمل جريمته بحق السوريين، وهانت على العالم الحر أرواح أكثر من 1400 مدني قتلوا على يد النظام من أطفال ونساء وشيوخ.
مجزرة التضامن غيض من فيض جرائم هذا النظام التي ستصيب العالم بالهول، عندما يعلمون كامل تفاصيل ما حدث على المسرح السوري خمسة عقود. ومقتل 41 مدنياً سورياً ليس علامة فارقة في نظر السوريين أمام معرفتهم بأجندات هذا النظام وإجرامه ونهجه. وليس بإضافةٍ يمكن أن تقدّم لتوثيق مأساة السوريين التي تجاوزت 14 مليون مهجر ونازح وأكثر من مليون شهيد، ومثلهم من المعتقلين والمغيبين قسراً في غياهب معتقلات الأسد وزنازينه. إنما يعوّل السوريون على أن تكون تفاصيل تلك المجزرة وهولها وخزة ضمير لقادة الغرب على الخطأ الذي ارتكبوه بحق الشعب السوري، عندما أهملوا المقصلة والمدحلة التي يتعرّض لها على الأرض السورية على يد نظام الأسد.
يأمل السوريون أن تكون مشاهد مجزرة التضامن صرخةً توقظ قادة الغرب للعودة إلى الوقوف إلى جانب شعب دمّره الأسد، فقط لأنه طالب بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. فهل تكون هناك عودة غربية وعربية وإقليمية لإنصاف شعبٍ بعد مأساة طال زمنها، أم أن لغة المصالح السياسية لدى قادة الغرب مقدّمة على لغة الإنسانية وحرية الشعوب؟