"ثمن الحرّية" كما رآه نجيب محفوظ
تدور الأحداث في زمن الاحتلال الإنكليزي لمصر. يبحث جنرالات جيش الاحتلال عن فدائي مصري، اسمه أحمد عبد الحفيظ، يقوم بعمليات موجعة لهم. يسعى الحكمدار الإنكليزي إلى القبض على الفدائي المصري وقتله، وتساعده الشرطة المصرية (بطبيعة الحال)، يتعقّب الحكمدار عبد الحفيظ في كلّ مكان، يهاجم أحد بيوت أصحابه، يستجوب صاحب البيت وزوجته وابنه الصغير، يسألهم عن مكان الفدائي المصري، فلا يُجيبه أحد. يجلد الحكمدار رجل البيت أمام زوجته وابنه، لكنّه لا يحصل على إجابة. يستمرّ في تعذيب الأب حتّى الموت، وبينما تصرُخ الأم لموت رَجُلِها، يأمر الحكمدار الإنكليزي بجلد الابن. تصرخ الأم هلعاً، لكنّها لا تنطق باسم الفدائي المُقاوِم، تتوسّل أن يتركوا ابنها فهو طفل لا ذنب له. يبدأ جلد الطفل، وتتعالى صرخاته. تنهار الأم، وتبدأ بالاعتراف، تشير إلى المُلازِم محمّد درويش المصريّ الذي يُجسّده الفنّان عبد الله غيث. تُخبِر الحكمدار الإنكليزي أنّ هذا المُلازم، الذي يعمل في المحافظة، يَعرِفُ مكان عبد الحفيظ ويُساعده. يستشيط الحكمدار غضباً، فالملازم المصري من فريقه، ومن المفترض أنّه يساعده. يأتي الحكمدار بالملازم، ويواجهه، وللمفارقة، يتهمه بالخيانة؛ يتهم الملازمَ المصريّ بأنّه يخون الإنكليز، ويعمل لصالح بلده، يخون السلطة ويعمل لصالح ناسه. يخون الدولة، ويعمل لصالح المجتمع. يخون المُحتلّ ويعمل لصالح "الإرهاب" (ما أشبه الليلة بالبارحة).
يضغط الحكمدار على المُلازِم المصريّ لمعرفة مكان عبد الحفيظ من دون جدوى، فيقرّر أن يعذّبه بطريقة أخرى، طريقة تتناسب مع نفسية مُناضِل. قرّر الجنرال أن يبتزّ المُناضِل أخلاقياً، أنّ يعذّب ضميره، أن يُشعِره بأنّ دعمه المقاومة سوف يُكلّف مصريين آخرين حيواتهم، وأنّ المُقاوِم مسؤول عن ذلك لأنّه يُقاوِم. أرواح الأبرياء أمام حرّيتهم، هذه هي المعادلة، وعلى المناضل "الحرّ" أن يختار. يأمر الحكمدار الإنكليزي رجاله بالقبض على ستّة أشخاص من المصريين، أي ستّة أشخاص تَصادَف مرورهم في الشارع في هذه اللحظة، ويأتي العساكر بالستّة المطلوبين. أمّ مصرية عادية تركت أولادها في البيت ونزلت لتأتي لهم بالطعام، وعربجيُّ حنطور غلبان، يسعى إلى رزق عياله الخمسة (عمر أكبرهم 11 سنة)، وطالبٌ جامعي (شنق الإنجليز والده) كان في طريقه إلى بيته حيث والدته التي ليس لها في الدنيا غيره. ومطرب مغمور يُحبّ الحياة ولا يريد أن يموت بلا ثمن. وعريس جديد يريد أن يعود إلى عروسه. وراهبة. الرهبة تيريز (أشجعهم).
يخبر الحكمدار الإنكليزي الضحايا الستّة بأنّهم لم يفعلوا شيئاً يستحقّ العقاب، لكنّهم سيموتون جميعاً ضرباً بالرصاص، إذا لم يتمكّنوا من إقناع المُلازِم المصريّ بالاعتراف بمكان عبد الحفيظ، ويمنحهم ساعةً، ساعة واحدة تفصلهم جميعاً عن الموت. تبدأ الأمُّ بالتوسل إلى عبد الحفيظ باسم أولادها الجائعين في البيت، وكذلك العربجي الغلبان، يتوسّل باسم أولاده الذين ينتظرهم اليُتم والضياع، ثمّ العريس الجديد، ستترمّل زوجه، ثمّ يأتي الطالب الجامعي الواعي المُتحمّس لقضية بلاده، الذي يفهم منطق المُلازِم المصري ويُقدّره، ويعرف قيمة عبد الحفيظ، ولكن... هنا، بعد لكن، يعلو صوت "المنطق" الذي لا يخلو من وجاهة، ولا يخلو من بعدٍ عاطفي بدوره، فقد قتل الإنكليز والد الطالب، شنقوه أمام عينيه، وأمُّه الآن أرملة وحيدة ليس لها غيره، فكيف يُضحّي المُلازِم المصري بالطالب وأمّه الأرملة، ويهين بطولة أبيه المشنوق؟ ولماذا يُضحّى بخمسة آخرين، وبأولادهم، وبحيواتهم من أجل مقاوم واحد قد يُقبَض عليه، وقد يفشل؟
سأتعمّد هنا أن أتركَكَ من دون إكمال الحكاية، تحريضاً لك على مشاهدة الفيلم المُرعب، المُرعب في أحداثه، والمُرعب في وعي صنّاعه وفي نفاذهم إلى منطق الطغاة، ومنطق المقاومين، ومنطق الضحايا، لكنّه في الأخير لا يتركُكَ مُعلّقاً بين الحرّية وأثمانها، وأيّهما يستحقّ، بل يجيب بوضوحٍ وبواقعيةٍ، وعلى ألسنة الضحايا أنفسهم تأتي الإجابات.
فيلم "ثمن الحرّية" مأخوذ عن مسرحية "مونتسيرات" للأديب الفرنسى المولود فى الجزائر إيمانويل روبليس. أعدّه للسينما نجيب محفوظ، وكتب السيناريو طلبة رضوان، وأخرجه نور الدمرداش.