ثورة لايفات التيك توك

02 ابريل 2023
+ الخط -

أنا أخاكم، تُوَجَّهُ إليّ، أحياناً، أسئلةٌ في الشأن السوري. لست عبقريَّ زماني، بالطبع، ولكن الإنسان الذي يسألني يعتقد، أو ربما يتوهّم، أن رأيي صائب. يقول: إن مناسبة سؤاله "ذكرى" الثورة السورية التي انطلقت قبل اثنتي عشرة سنة. أتمسّك بالكلمة الأخيرة، وأقول له إنها، بالفعل، أصبحت "ذكرى". إذا أردنا، يا صاحبي، أن نتقصّى عن وجود ثورة في سورية الآن، يجب أن نحدّد المكان المقصود، فسورية، اليوم، ليست موحّدة، بل ممزّقة. ولكن، ألا توجد ثورة في مكانٍ ما من سورية؟ بلى؛ توجد ثورة: في "لايفات التيك توك"! 
أقول لمن لا يعرف: إن كل مشتركٍ في تطبيق تيك توك، عندما يزيد عدد متابعيه على الألف، يصبح من حقّه أن يطلع في بث مباشر (لايف). وإذا حقّق "اللايفُ" حدّاً معيناً من المتابعات، واستغرق وقتاً أطول، يُرسل له بعض متابعيه والإدارة نقوداً. وهكذا صارت "اللايفات" باب رزق، وبالأخص للعاطلين من العمل، وصرتَ ترى الألوف من الشباب والبنات، وحتى كبار السن، معسكرين في ربوع "التيك توك" ليلاً ونهاراً. ولأن الذين يجرون بثوثاً مباشرة كثيرون، فقد أصبحت المنافسة بينهم قوية، ويمكن وصف الشجارات التي تحتدم بينهم بأنها: على القتل! ويبدو أن أجيال "التيك توك"، من سوريين وعرب، متتلمذون على يد فيصل القاسم، في برنامجه "الاتجاه المعاكس" الذي لا يمكن حضور اثنين من ضيوفه في الاستوديو من دون أن يكونا متسلحين بالعصي ... وهكذا تبدو لايفات التيك توك مثل البازار الذي تنشب فيه مشاجرة، أو معركة، على نحو مفاجئ، ويصير الصراخ، والبهادل، والتحاشيك، مثل حرب اليابان، ولكن المتمعّن في أنواع التحاشيك التي يتداولونها يجدها مدروسة بعناية فائقة. وإذا سأل أحدهم آخرَ باستخفاف: مَن أنت؟ يردّ عليه؟ أنت لا تعرفني؟ طيب، بسيطة، روح اسأل أمك عني، فهي تعرفني! ومن البديهي أن المرأة المحترمة، أمّ الرجل المشتوم، لا علاقة لها بهذا السخف. ولعلمك؛ كل واحد من أولئك المتشاجرين يزيد حجمه على الشنتير بقليل، وبعضهم كبار السن، ما يعني أن أمهاتهم منتقلات إلى رحمة الله وعفوه منذ زمن بعيد، ولو كانت إحداهن على قيد الحياة، والتقت هذا التافه الذي يدّعي معرفتها، فلا شك أنها ستأتي بحذاء بلاستيكي عتيق، وتضربه به على شفاتيره. 
يستغرب صديقي الذي يسألني عن الثورة استرسالي في الكلام عن "لايفات التيك توك"، فأوضح له أن كل أنواع السباب، والتحاشيك، والتكفير، والتخوين، مسموح بها في هذه "اللايفات"، أما التعرّض للثورة بكلمة سوء واحدة، فيا ساتر استر. وصحيحٌ أن المتكتكين قد تحوّلوا إلى جماعات متناحرة، ولكن حبَّ "الثورة" بقي قاسماً مشتركاً بينهم. أصبحت عند مختلف فئاتهم، معياراً للشرف، والرجولة، والوطنية، ومَن يرد أن يبطح خصمه أرضاً، ويثبت كتفيه، فلا بد له من أن يشكّك بثوريته، فيذهب إلى دفاتره العتيقة، ويستخرج منها سردية لحادثةٍ تثبت أن ذلك الخصم الحقير ألقى السلام، ذات يوم، على عنصر مخابرات سوري، أو شوهد وهو يلعب بالنرد مع ضابط مخابرات، أو أن الثورة قامت، ولم يعلن انشقاقه حالاً، أو ربما كان، في أثناء نشوب الثورة، خارج البلاد، فلم يكسب شرف السباب لوالدة أحد أركان النظام، والأنكى أنه لم يكن مطلوباً لأحد فروع المخابرات طوال حياته، وعندما انضم إلى الثورة بقي بعيداً، لم يحمل بارودة، ولم ينتسب إلى فصيل، وحتى المظاهرات في أوروبا ضد النظام لم يُرَ فيها قط.
على ذكر المظاهرات في المدن الأوروبية، أو التركية، أقول لو أن الثورة كانت شاملة ضد كل أنواع الاستبداد، لما اقتصر الاحتجاج فيها على جرائم النظام وحده.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...