جارتي اليونانية
يبدو أنني كنتُ على موعدٍ مبكّر مع صورة مستقبلية لحياتي، حين أصبحت على علاقة جيرة جديدة مع سيدة يونانية تقطن في الطابق أسفل الذي أقطنه من البناية الضخمة التي انتقلت إلى السكن فيها قبل نحو عامين، فيما أمضيتُ سني عمري السابقة وأنا أقيم في بيت عائلي لا يزيد ارتفاعُه عن طابقين. ولذلك حدث تغيّر في نمط حياتي، وأصبح الجيران فوقي وتحتي بدلا من أن يكونوا حولي في بيوتٍ متجاورة. وهكذا لم أعد أجد جيرانا لألقي عليهم التحية مثلا؛ فالجيران هنا يختفون في شققٍ ضيقة ويتغيّرون ويتبدّلون، فقليل منهم من يقيمون إقامة دائمة في هذه الشقق، إلا هذه الجارة، فقد التقيت بوجهها منذ وطئت قدماي هذه البناية مرّات عديدة، وفي كل مرّة نتبادل التحية، وتوجّه إلي دعوة إلى شرب القهوة في شقّتها، ولكني أعتذر أمام قراري أن أنعزل في هذه المرحلة العمرية، وكأني قرّرت أن أهرب بجروحي، وألوذ بها بين جدران شقّةٍ ضيقةٍ في بناية ضخمة وسط هذه المدينة الواسعة، وكأني اعتقدتُ أن هذا القرار قد يشفي بعض الجراح، ولكني لم أكن أعرف أن جارتي اليونانية قد عاشت فصولا تطابق فصول حياتي، وكان عليّ أن أستمع إلى قصتها كاملة وتنهمر دموعنا، ونُطلق عليها قبل أن أغادر شقتها والتي دخلتها أول مرّة بعد إلحاح شديد منها، وحيث أمسكتُ بكفّي وسحبتني إلى الداخل، وأنا أودعها عند باب المصعد، وكأنها طفلة ضائعة لم تصدّق عينيها بأنها عثرت على أمها التي تاهت منها في الزحام فسحبتها ودخلت بها إلى البيت، وأوصدت الباب سريعا قبل أن تفقدها ثانية.
اكتشفت وأنا أجلس على أول أريكة صادفتني أن هذه السيدة تعيش وحيدة منذ سنوات، ولولا زيارات متقطّعة من أولادها الذين تزوّجوا وأنشأوا عائلات صغيرة لأطلقت عليها لقب وحيدة بجدارة، ولكن ذلك لا يمنع أن تمرّ الأيام من دون أن يطرُق بابها أحد، وأن اليوم الذي يزورها فيه أبناؤها يجعلونه يوما لكي يلتقوا ببعضهم بعضا، وتكتشف كما أخبرتني أنهم يرغبون باللقاء وتبادل الأخبار واستطلاع آخر مستجدّات حياة كل واحد منهم أكثر من رغبتهم في زيارة الأم الوحيدة التي لا تتوقّف عن إعداد أطايب الطعام الذي كانوا يحبّونه، حين كانت تعدّه لهم في وطنها اليونان.
لم أصدّق أنها يونانية، لأنها كانت تتحدّث اللهجة الفلسطينية مثل أهلها، حين بدأت تحكي قصتها التي أطلقت عليها اسم "الخذلان"، فيما انتحلت هي لزوجها الذي خذلها العذر، وهو أنه كان يمرّ بما يعرف بـ"جهلة الأربعين" بكل قوة. وهكذا، فحين عادت معه إلى أرض الوطن، بعد أن تنقّل في عمله في عدة مناصب وبين دول عربية وأوروبية مختلفة، وبعد أن أنجبت خمسة من الأطفال، بناء على إلحاحه، لأنه يحب "العزوة"، فقد أدركت أنها حين عادت إلى أرض وطنه أن زوجها قد أصبح يعاني من المراهقة الثانية، إضافة إلى أنه أصبح يرى الفرق بين زوجة أوروبية يضطرّ أن يساعدها في تنظيف المطبخ، بعد أن يتناول الصغار وجبتهم، وبين زوجة عربية، وتحديدا فلسطينية، تنظّف الأطباق، فيما يلعق الزوج أصابعه أمام التلفاز، وأمام سخرية أقاربه من أسلوب حياته، وبأنه لا يقوم بدور "سي السيد" مثلهم، فقد أوعز له هؤلاء بضرورة الزواج من امرأة من طينته، تعزّز لديه الشعور بذكوريّته. وهكذا فقد تزوّج بكل بساطة وطلّقها.
تنهّدت جارتي اليونانية، وهي تروي لي أنها اضطرّت ألا تعود إلى وطنها من أجل أطفالها، حتى مضى قطار العمر وتزوّج الصغار، وأصبحت تعيش وحيدة، وأنها تشعر بمرارة الوحدة والخذلان أكثر من أي وقتٍ مضى. ولذلك جذبت يديّ بقوة، وقرّرت ألا أفلت يديّ منها، لأنها تعيش جزءا من قصتي الماضية، وبعض المستقبل الذي ينتظر امرأة مخذولة من رجل حياتها الذي حلمت بأن تشيخ معه، وآثرت أن تعيش من أجل أولادها.