جنازة من زمن آخر
أُعلن موت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية يوم 8 سبتمبر/ أيلول الحالي، كما تَمّ الإعلان عن الترتيبات المتعلقة بجنازتها التي تواصلت من دون انقطاع إلى حين دفنها، يوم 19 من الشهر نفسه. وما يلفت النظر في طقس الجنازة أُبهتها ونظامها وكثير من مظاهرها التي أتصوَّر أنها أُعِدّت للاحتفاء بالحياة .. ورغم أن الموكب الجنائزي يحمل الميت، فإن حركته وألوانه والموسيقى المصاحِبة له تحمل كثيراً من مظاهر وعلامات الحياة، سحره يفوق الوظيفة التي رُسِمَت له. والإشارة هنا إلى الأدوار التي أصبح يمارسها الإعلام في صناعة الأحداث. في الماضي، وفي مصر الفراعنة، بُنِيَت الأهرام لدفن الملوك، ويتم اليوم حمل النعش عشرة أيام ووضعه أمام الزُّوار، سواء منهم الذين يعترفون بالملكة ويُكِنّون لها ولاءً ما، أو الذين لا يهتمون إلا بالموت والحياة، حيث يتيح لهم الموكب الجنائزي مناسبةً لمعاينةِ الميت والموت مرفوعاً داخل تابوت تجره الخيول، أو محمولاً فوق أكتاف مجموعةٍ من الحرس الملكي.
أتصوَّر أن الإعلام اليوم يمنح الموت والجنازة بهجةً، وتساهم الجنائز المنقولة بالصور من عِيار جنازة الملكة إليزابيث الثانية بمظهرها الإمبراطوري المُلَوَّن، في إيهام المشاهد بتوقف الزمن. أَلوانُ غطاء التابوت والورود التي تحيط به، ألوان ملابسِ حامليه وحركة سيرهم، الموسيقى المواكبة، ثم أجواء الكنائس وشُمُوخ معمارها، الخيول وإيقاع حوافرها، الكبار والصغار، الأدعية وما يصاحبها من صمتٍ يخترق مُختلفَ أشكال الأصوات المرتفع منها والخافت. أَدعيةُ رجال الكنائس، خشوعهم وغناؤهم الشجي. أجواء الحياة في ظل الموت وبجواره. يتحوّل الموت ظاهرة للفرجة والتأمل، ورغم أننا نتابع في إعلام الجنائز مَوتَ الكبار، والأبطال والنجوم والقادة، إلا أن فعل الصورة، بكل ما يواكبها من طقوس، يكشف قدرة الأحياء على نسيانِ فعلِ الفقدان ومفعوله. وتشكل أيام العزاء وطقوسه داخل المجتمعات البشرية إحدى الوسائل المستخدمة من أجل الغاية نفسها، إضفاء الحياة على الموت، حتى عندما لا يكون ذلك ممكناً إلا في وِجداننا.
تضاعفت هيبة الموت في أعيني وفي خاطري وأنا أتابع جنازة الملكة، تضاعفت عندما رأيتها قبل إنزالها إلى القبو الذي ستوضع فيه داخل الكنيسة الملكية بجوار تابوت زوجها. انتبهت إلى أنها كانت مكسوّة بثياب فاخرة، كما انتبهتُ إلى الكيفية التي كانت مستلقية بها على ظهرها، ورأيت أشكال الأغطية التي زُيِّن بها التابوت، وكذا الورود التي كانت تؤطّره من كل جانب، فازددت اقتناعاً بأشكال الحياة وأشكال البهجة التي يحرص بعض الأحياء على أن تظلّ جزءاً من الموت. لا يتعلق الأمر بجنازة ملكةٍ تُعَمِّم الصورة اليوم حكايتها بإدارة سياسية، وتُنْفِق من أجل ذلك، ما يمنح الصورة الفعالية الرمزية المقرّرة لها، والمتمثلة في عملية ترسيخ نظام في السلطة حياً وميتاً.
موكب الجنازة وطقوسها في الصورة يستوعب كثيراً من أوجه الحفاوة، ويُؤشّر على رغبة المَلَكِية البريطانية في المحافظة على تقاليدها
كان للموكب الجنائزي سحر خاص، سحر الصوت والصورة، سحر الأدعية والتراتيل في الكنائس، حركة سير الجنازة وتنقلها، وضع التابوت في قُبَّة البرلمان قصد رؤية الوداع. نقف ونحن نتابع الموكب أمام فعل استأنس الإنسان القيام به منذ القِدَم، فعلٌ يتخذ اليوم شكلاً آخر بفعل ما يقوم به الإعلام المصوَّر، الإعلام الذي يتنافس على كَمّ المشاهدين، ويجري مقارنات غريبة بين عدد مشاهدي افتتاح أولمبياد أتلانتا سنة 1996، الذي تابعه نحو ثلاثة مليارات و500 مليون شخص، وجنازة يُتوقع لها أن تنال رقماً قياسياً، حيث يُرجَّح أن أكثر من نصف سكان العالم تابعوا عملية تشييعها في دير وستمنستر.
للصورة جاذبيتها وللجنائز هيبتها، وعندما تتحوّل الجنازة إلى صور تتضاعف الجاذبية، وعندما تنشئ الملكية البريطانية قناة خاصة لتقديم الموكب الجنائزي، بطقوسه وعتاده البشري والرمزي في الطرقات والممرّات التي أُعدت لعبوره، وكذا مختلف الألوان والأصوات والحركات اللازمة له، نكون أمام حدثٍ استثنائيٍّ بمقاييس المآتم والأفراح، مقاييس الموت والحياة.
لا تمنح جاذبية الصورة امتيازاً، ولا نعتبر المتابعات الكبيرة التي تًمَتَّعَ بها مُوكبُ جنازة ملكةٍ لا تحكم، تجلس على رأس أعلى السلطات السياسية والدينية والسلطات التاريخية، لإمبراطورية كانت فيما مضى لا تغيب عنها الشمس، لا نعتبر الحظوة الإعلامية التي تمتعت بها الجنازة في أعين المشاهدين إلا باعتبارها جزءاً من ثقافة عصر الصورة في زمن الإعلام الصانع للأحداث التي يعتقد الفاعل السياسي بأهميتها .. وموكب الجنازة وطقوسها في الصورة يستوعب كثيراً من أوجه الحفاوة، ويُؤشّر على رغبة المَلَكِية البريطانية في المحافظة على تقاليدها التي أصبحت لا علاقة لها بأنظمة الحكم الجديدة والمستجدّة في عالم متغير.
يُرجَّح أن أكثر من نصف سكان العالم تابعوا عملية تشييع إليزابيث الثانية في دير وستمنستر
تستوعب جاذبية الموكب الجنائزي كثيراً من مظاهر البلاهة، كما تستوعب كثيراً من مظاهر التقليد المُلَوّنة، وهي، في أغلبها، مظاهر لا تَمُتّ بصلةٍ إلى ثقافة عصرنا ومكاسبه، في إدارة شؤونه في السياسة والاقتصاد، وكذا في تسييره مقتضيات الحياة والموت، فقبل وضع جثة الملكة في القبو، يكسر كبير حرّاس القصر الملكي قضيباً يحمله، وهو تقليد يرمز إلى نهاية عهد الملكة، ثم يضع القضيب المكسور فوق التابوت. يحمل بعد ذلك التاج والصولجان وصندوق حِلِي الملكة، ثم يغادر المكان، حيث من المنتظر أن يُعَيِّن الملك الجديد حاكماً آخر للقصر، يَعْبُرُ الطريق الذي عبره من كان قبله وغادر القصر بعد موت الملكة. تحرص المؤسسة الملكية البريطانية على تقاليدها، كما تحرص على ميزانية القصور والأمراء والحاشية، وهي تقاليد كثير من طقوسها دُبِّر ورُتِّب زمن الإمبراطورية الاستعمارية الكبرى، ويتواصل التشبث بها اليوم، في زمنٍ لا علاقة بالأزمنة التي نشأت فيها.
هل سيتواصل عمل النظام الملكي البريطاني بتقاليد المؤسسة الملكية في مجتمعٍ لا يجادل أحدٌ في حداثته، بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية التي عَمَّرَت سبعة عقود على كرسي العرش بسلطة رمزية ترعى التقليد والتقاليد؟ ماذا يحمل الملك الجديد تشارلز الثالث من جديد؟ ماذا حمل طوال سنوات ولايته للعهد خارج حكايات كاميليا وديانا والأمراء والأحفاد؟ لا يبدو أن في الأفق علامات واضحة على تغييراتٍ محتملة الحصول في الدَّوْر والمهمةِ، أو في تحريك ما يسمح بتجديد الملكية وطقوسها. ولهذا أجبت عن أسئلتي منطلقاً من اعتبار أن الجنازة قادمة من زمن آخر، مثلها في ذلك مثل النظام الذي رسم خطوط ودوائر موكبها.