جنبلاط في خطوة إلى الوراء
أصبح نجل الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، رئيسا للحزب التقدمي الاشتراكي، فاتحا الباب أمام الشباب "لمواكبة المرحلة الجديدة"، من نوع الوعود التي أطلقها والده وليد جنبلاط باستقالته من العمل السياسي في لبنان شيئا فشيئا. ولكن هل تصل النتيجة إلى ما يريده في تولي نجله السلطة السياسية في بلد الحساسيات السياسية والطائفية والعائلية الإقطاعية المفرطة؟ ما عادت السياسة في لبنان تصلح لشيء، مع صعوبة تسيير أمور الناس، ومع تفكّك الأوضاع وانهيارها. الزمن اللبناني مأزوم. يخرج فيه الزعماء من الصورة السياسية الواحد تلو الآخر، فتدبرالرعيّة نفسها تعبيرا عن فشل في السياسات العامة، وتحولها عبئا على البيوتات السياسية. وليد جنبلاط بعد سعد الحريري، وفي ما يشبه الإعلان عن "تعليق" مهامهما السياسية. جنبلاط الذي يدرك نقاط القوة والضعف في السياسة اللبنانية، والذي اضطلع مراتٍ عديدة بمهام القيام بتدبيرها جيدا، وساس ظروفا معقدة، فتفاعل مع الوجود السوري الثقيل بحنكة، وتفوّق بذكائه على معارضيه وحلفائه. على الرغم من ذلك، يحدُث أنه يخطئ ويصيب، هو الذي اختبر أشياء كثيرة. لم يتخلّ عن طبعه. كسواه تلذّذ وتنعم بفوائد السياسة طويلا في مزيجٍ من قصص، فيها أوقات من الفصام، من الربح والانتصار وأخرى من الزلل والتخلي.
استقالة لا تخرج عن أوضاع غير مستقرة. لا تغبط ولا تشجع لمشاهدة أشياء مقبلة ستتحقق، أو بمسار جديد في الحياة السياسية، وفضاء تقدمي للنقد والمساءلة. لذلك، ليس إعلان الاستقالة من رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي (الحزب المحاصر معنويا منذ اغتيال مؤسّسه ومصمّم رؤاه وأفكاره كمال جنبلاط ) مفاجئا. لمّح إلى ذلك مرّات عديدة. وسيلة يستخدمها جنبلاط، فتعطيه عادة حضورا أقوى. ولكن ثمة ما يقلق أخيرا. جمهور الشباب الأكثر استقلالية، وانسلاخا وتمرّدا على الأفكار التقليدية. برز ذلك في احتجاجات 17 تشرين (2019-2021)، مرورا بمحطّات من الانتخابات النيابية والبلدية. تستيقظ أحلام الشباب اللبناني في التغيير، فيعطي جنبلاط اسمه لنجله الشاب في معان وأشياء قد لا يكون الأكثر تحقيقا لها، لكنه يعطيها أسبابا موجبة. يدرك أن المنسوب السياسي سيعود إليه، ويعزز حضورالزعامة التاريخية في المختارة، ويمنحها إيقاعا تشكيليا جديدا. لا يتطلب الأمر مبصراتٍ كثيرة لمعاينة دور جنبلاط في التركيبة السياسية اللبنانية، وإزاء جمهور يمثله (لا يقف كثيرا عند معاني إرادته ومطلوباته في المواقف السريعة التي يتحرّك بها).
يقيم جنبلاط في منعطفات التاريخ والجغرافيا وتقاطعاتها مع الموارنة في جبل لبنان، ومع دمشق وموسكو والثورة الفلسطينية
قد يُنظر إلى الأمر ترتيبا لأوضاع البيت الداخلي، لكنه مدعاة للتأمل أكثر بما تعبرعنه الخطوة من مخاوف لدى الجماعة التي التصقت به برباط واحد. ثمّة ما يعبّرعن تشاؤم كبير في مآل الأوضاع في مرحلةٍ عنوانها انهيار الكيان اللبناني، أو مكابدته بؤس التسويات، مع خشية من عودة شبح النظام السوري. يريد جنبلاط مغادرة أوضاع موحشة كانت تفجّرت في السنوات الأخيرة مع تفشّي وباء كورونا 2019، وانفجار مرفأ بيروت 2020، فنهض بها بمبادرات سامية وإنسانية شمولية، وتولى مهامّ اجتماعية على طريقته. يُحكى الآن عن صورة مرابطة "الذئب في الجبل"، أو الانكفاء خطوة إلى الوراء، أو فترة نقاهة وسفريات وإنجاز مذكّرات وإشباعات بشغف القراءة والثقافة التوسعية التي يشغلها (ويحاول دائما التملص من تعريفاتها).
صورة أخرى عن السياسة وتمثلاتها. ما يجري من أحداث في العالم والإقليم يقع أساسا في مدركات اللحظة، فتعطيه رؤية جيدة، بخلاف كثيرين يمارسون العملية السياسية، ولا يلتقطون منعطفاتها الخطرة. كل هذا الالتباس التدريجي في المنطقة والعالم وسيلة لتشويش إدراك ما في مدى متباين من التناقضات في مسائل عديدة تثير نوعا من الظلال الخاصة، واستعارات موحية من كتب التاريخ والرواية والوجدانيات. هو الذي يقيم في منعطفات التاريخ والجغرافيا وتقاطعاتها مع الموارنة في جبل لبنان، ومع دمشق وموسكو والثورة الفلسطينية.
على مدى نصف قرن، قاد وليد جنبلاط جماعته مكرّساً وحدتها
الحقيقة اللبنانية بمعنى الجرح التاريخي، والذي بذل مجهودا كبيرا مع البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير (1920 - 2019) لإطفائه في عودة المهجّرين إلى الجبل. واجه جنبلاط في 7 مايو/ أيار2008 محاولة الدخول إلى قصره التاريخي في الجبل، وكان على وشك إطلاق نسخة جديدة من حرب الجبل، لولا اتصال منتصف ليلة القبض على الفتنة من صديقه وحليفه نبيه برّي.
ولأن التسويات والأزمات الأخيرة مترابطة، يتحرّك جنبلاط باتجاه قطار المغادرة كي لا يلزم وريثه الشاب بتكرار خيبات بيروقراطية. كأنها صورة عن الأوضاع الاكثر سوءا، تنهي عصرا من النرجسية السياسية. سيواجه الوريث الابن صعوبة اللحظة ("إذا بقي لبنان"). لحظة يشغلها، تكرس زعامة مثلّها والده ببراعته وأسلوبه وشجاعته، لكنها قد تفتح على مصالحات وتسويات، قد تكون سوريالية في المرحلة المقبلة.
على مدى نصف قرن، قاد وليد جنبلاط جماعته مكرّساً وحدتها. زرع نعش والده في تربة القصر، وبعد أربعين يوما صافح حافظ الأسد، وأدخل الدروز في مطبخه السياسي. وهو لا يزال على مواقفه الداعمة للثورة السورية بوسائل مختلفة (لم يسقطها في المناورات، ولا في التعامل مع التصوّرات الداخلية المختلفة)، كذلك الجرح الذي ناهضه إلى الأقصى بعد اغتيال حليفه وصديقه رفيق الحريري، إلى تحالفه الثابت والاستراتيجي مع الشعب الفلسطيني، عنوانا لقضية العرب والإسلام السياسي في الحرية. ينأى جنبلاط بنفسه قليلا، ويقيم حسابات متباعدة مع النظام السوري ومع حزب الله ومع بعض القيادات العربية، التي تخطئ كثيرا بتخليّها استراتيجيا عن لبنان. يظهر بوضوح أنه التقط رسائل صريحة عن أوضاع تتحرّك بشكل صلب جدا، لا تنفع معها حركات الدوران، ولا يمكنه مجاراتها، فيحرّر الصورة في خطوةٍ إلى الوراء مع نجله بسلوكياته الخاصة.