جودت سعيد .. غاندي العرب يرحل بصمت
التقيته مرّة واحدة، على هامش مؤتمر في تونس، فوجئت به في أحد الممرات في الفندق، وكم كنتُ مسروراً، وسألته ما إذا كان معنا في الفندق، فأجاب بالنفي، إلى أن أخبرني أصدقائي بأنّه يرفض المبيت في الفنادق الفاخرة، ويفضّل منازل بسيطة أو فنادق رخيصة من ذوات النجمة. قال لي متواضعاً إنه لا يستطيع أن يتعود على هذه الحياة المترفة، ولا تروق له.
ليس ذلك الحوار تمثيلاً ولا منفصلاً عن سياق فهم جودت سعيد وحياته وفلسفته بصورة عامة، فالرجل لم يهو الأضواء ولا الاستعراض، بل عاش حياته متصالحاً مع نفسه، يقدّم دروسه ويقوم بالتأليف في قرية بئر عجم بالقرب من مدينة القنيطرة، يعتمد على مزرعته الصغيرة في تربية النحل، ويعيش حياة بسيطة في بيتٍ ريفي صغير ومتواضع.
اشتبكت مع أفكار سعيد وكتاباته وفلسفته في رسالتي للدكتوراه (صدرت كتاباً "الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"). يحسبه كثيرون على مدرسة مالك بن نبي، وهذا صحيح من زاوية الأفكار الرئيسية الحاكمة لهذه المدرسة التي يطلق عليها المدرسة الثقافية، فقد ركّز كل من مالك بن نبي وجودت سعيد على أنّ الأزمة الحقيقية في العالم العربي ليست سياسية، بل ثقافية - مجتمعية، وأنّ الأصل هو الاهتمام بتغيير الأفراد والمجتمعات والتركيز على العمل، التعليمي والتربوي والنهضوي، وليس السياسي، بل كان كل منهما مجافياً مجانباً للسياسة. وبينما وضع بن نبي مؤلفاته تحت عنوان واحد "شروط النهضة"، وضعها سعيد تحت عنوان "سنن تغيير النفس والمجتمع"، واهتم بدرجة كبيرة في عملية نقل الإنسان من مرحلة الكلالة إلى الفعالية والإنتاج والإنجاز، وذلك يقتضي، وفقاً له ولأستاذه مالك بن نبي، التركيز على منظومة الواجبات قبل الحقوق، لأنّ الأولى تعبر بالناس إلى العمل والفعالية والتفكير بما هو مطلوب منهم، بدلاً من عقلية التكاسل وإلقاء اللوم على الآخرين.
برأي سعيد الانشغال في العمل السياسي والصراع على السلطة أرهق العمل الإسلامي، وذهب به إلى مداخل خاطئة أدّت إلى كوارث كبيرة
لم يكن خيار بن نبي وسعيد بالابتعاد عن العمل السياسي مصالحةً أو تصالحاً أو خشية من الاستبداد، بل لأنّ نظريتهما تقوم على أنّ خلع الاستبداد من جذوره يتم عبر تغيير ما في النفوس والمجتمعات، قبل تغييير السلطة السياسية، فكما يقول سعيد المطلوب "الأمة الراشدة أهم من الخلافة الراشدة، لأنّ الأمة الراشدة هي التي تصنع الخليفة الراشد وليس العكس، والأمة غير الراشدة تقتل الخليفة الراشدة، كما قُتل علي بن أبي طالب".
تمثّل هاجس سعيد الرئيس في مواجهة التخلف وبناء فهم مختلف للدين والقرآن، ينطلق من مفاهيم حضارية ونهضوية وتنموية تدفع المجتمعات المسلمة إلى التعليم والعمل والإنجاز والفعالية، وبرأيه الانشغال في العمل السياسي والصراع على السلطة أرهق العمل الإسلامي، وذهب به إلى مداخل خاطئة أدّت إلى كوارث كبيرة.
عند هذه النقطة تحديداً، يمكن أن نفهم المساهمة الكبرى لجودت سعيد في الفكر الإسلامي وتميّزه أو امتداده بهذه الميزة عن مالك بن نبي، حتى أصبح يوصف بأنّه "غاندي العالم الإسلامي"، فقد كتب كتابه "مذهب ابن آدم الأول" محرّماً العنف واستخدام السلاح، ومؤكّداً على أهمية العمل السلمي والتغيير بعيداً عن السلاح، وقد كرّس جزءاً كبيراً من تفكيره وتأليفه وخطبه لتجذير مذهب العمل السلمي.
تقديس سعيد العمل السلمي ورفضه القطعي العمل المسلح واستخدام السلاح يتأسّس على فلسفة تقوم على أنسنة الإنسان
تجذّر اهتمام سعيد بالعمل السلمي وتحريم العمل المسلح ورفضه منذ كتابه الأول في الستينيات. وكان قد ألفه على وقع ما شهده في مصر مما وقع على جماعة الإخوان المسلمين، ثم إرهاصات الصراع بينهم وبين الدولة في سورية، فحاول توجيه رسالة تحذيرٍ لتجنّب أحداثٍ وقعت فعلاً لاحقاً. من المهم إدراك أنّ تقديس سعيد العمل السلمي ورفضه القطعي العمل المسلح واستخدام السلاح يتأسّس على فلسفة ثاوية وراء ذلك، تقوم على أنسنة الإنسان، واحترامه وتكريمه وتقديس قيمته بوصفه إنسانا، وقد وصل إلى هذه النتيجة الرئيسية التي بنى عليها مذهبه الفكري، أنّ العنف مرض خطير متوارث في الثقافتين، العربية والإسلامية. لذلك لا بد للوصول إلى بنية ديمقراطية مستقرّة راسخة علاجا لهذا المرض واجتثاثه من الثقافة العربية، وبغير ذلك، لا فرق إذا وصل إلى السلطة هذا الاتجاه أو ذاك!
يؤسّس مثل هذه المذهب الرائد في الفكر العربي المعاصر لفهم جديد لدور المجتمع المدني والمجال السياسي والعام، ولمراجعة النظرة إلى حقوق الإنسان، لمنحها سمة القدسية والكرامة والوصول إلى هذه المرحلة يتطلب جهوداً كبيرة في تغيير عقل الإنسان العربي، وتطوير رؤيته لنفسه والمجتمع والآفاق (أي الكون المحيط به)، لذلك كان أحد أعمدة مدرسة سعيد السنن الاجتماعية والكونية التي تمثل أسباب التقدّم والنهوض والتطور والعكس صحيح!
مع الأحداث في سورية، شارك مريدو الشيخ سعيد في الحراك السلمي، ودعموا حق الناس في الكرامة والحرية والعدالة، وقد تقطّعت أخباره بصورة كبيرة، لكن ما هو مؤكد أنّه هاجر واستقر في إسطنبول قبل أعوام، إلى أن غادر، قبل يومين، بصمت هذا العالم. بهدوء، كما عاش هذه الحياة الهادئة، على الرغم أنّه لمس وأسّس وجذّر أفكاراً عظيمة أثبتت الأحداث المتلاحقة عمقها وصحتها. لكن وللأسف الشديد، كالعادة، لم يحظ هذا العالم في إعلامنا العربي بأي اهتمام، لا يُذكر إلا قليلاً على هامش الأفكار، ولو كان في مجتمعات وأمة أخرى لكان لرحيله صدى كبير، لكن عزاءنا أنه يحب الهدوء والعمل بصمت والبعد عن الأضواء، هكذا عاش وهكذا رحل.