حديث الطرب وفتحية أحمد
كنتُ، محسوبكم، مستمتعاً بسماع أغنية "يا حلاوة الدنيا" التي أبدعها الثنائي العبقري، بيرم التونسي وزكريا أحمد، بصوت المطربة المصرية فتحية أحمد (1898- 1975)، فخطر لي أن آخذ فكرة موسّعة عن هذه المطربة. وجدتُ، خلال البحث، أنها كانت، في زمانها، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، احتلت، في سنة 1926، المركز الأول بين مطربات العصر. وانتقلت إلى المركز الثاني بعد الصعود الكاسح لمجايلتها أم كلثوم. لم يبق موسيقار كبير في النصف الأول من القرن العشرين إلا وقدّم لفتحية أحمد بعضاً من ألحانه: أبو العلا محمد، محمد القصبجي، رياض السنباطي، أحمد صدقي، محمد عثمان، عبدو الحامولي، محمد عفيفي، داود حسني، فريد الأطرش، كامل الخلعي، سيد درويش..
كانت فتحية أحمد تحمل لقباً ملفتاً هو "مطربة القُطْرَين"، يذكّر بلقب مطران خليل مطران (1872- 1949) الذي أمضى جلّ حياته في مصر، واكتسب لقب "شاعر القُطرين". تقول فتحية أحمد، في مقابلة أجرتها معها إذاعةُ القاهرة قبيل وفاتها، إنها كانت "تتفسّح"، صيف كل سنة، في مدينة زحلة اللبنانية، وذات مرة التقت هناك أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب ومطران خليل مطران، وقال مطران لشوقي: توحة (فتحية) ليست لكم وحدكم، إنها مطربة القُطرين. واتفق الحاضرون، يومئذ، على ترويج هذا اللقب. كانت فتحية تنصح مطربي الجيل الجديد ومطرباته أن يحافظوا على أصواتهم باتباع ثلاث وصفات: الامتناع عن التدخين، الامتناع عن شرب الكحول، إعطاء الجسم حقه من النوم.. وكان حظّها من التعليم قليلاً. ومع ذلك كانت تحفظ الكلمات والألحان التي تُعطى لها وتؤدّيها على نحو بارع. وفي أفلام السينما كان المخرجون يأتون بممثلة أخرى تغنّي بصوت فتحية أحمد، (دوبلاج). وفي نهاية الأربعينات، شاركت في المسرحية الغنائية "يوم القيامة"، وقد أضيفت أغنية "يا حلاوة الدنيا" إلى النص المسرحي لأجل أن تغنّيها بصوتها.
كان معظم مطربي مطلع القرن العشرين في مصر من مشايخ الدين، ومعظمهم يحمل لقب الشيخ. السبب أن الأفراح الريفية، والصعيدية بشكل خاص، كانت موالد تقدّم فيها الأناشيد والتواشيح والمدائح النبوية. ومعلوم لدى حضراتكم أن أم كلثوم هي ابنة الشيخ المؤذن إبراهيم سيد البلتاجي الذي كان يصحبها معه، وهي طفلة، لتغنّي بصوتها الأسطوري. وكان هذا حال الملحن الكبير رياض السنباطي الذي يروي، في مقابلة قديمة مع تلفزيون الكويت، إنه كان يرافق أباه الشيخ المنشد وهو صغير إلى الموالد، واستعذب السامعون صوته، وأطلقوا عليه لقب "بلبل المنصورة".. أما والد فتحية أحمد فهو الشيخ أحمد الحمزاوي الذي كان مطرباً ذا صوتٍ جميل، ولكنه يميل إلى المرح والفكاهة. وقد استعان بمطربيْن فكاهييْن، وشكلوا ثلاثياً مرحاً أطلقوا عليه اسم "الشيخ كعبولا". وكان من أشهر إبداعاتهم أغنية بعنوان "كعبولا الخفة"، ولهذه الأغنية أهمية استثنائية، فقد اقتبس الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب لحنها، وغنّى عليه قصيدة أحمد شوقي "مضناك جفاه ومرقده"! هذا يقودنا إلى فكرةٍ مهمةٍ اسمها الاقتباس. محمد عبد الوهاب، مثلاً، كان نهراً جارياً من الألحان، ومع ذلك اقتبس أغنية "بدنا بحرية يا ريس" التي يغنّيها وديع الصافي من الفنان اللبناني الساخر عمر الزعنّي. وسيد درويش، المبدع المجدد الأكبر كان قد اقتبس معظم ألحانه الشهيرة (بحسب الكاتب والباحث، صقر أبو فخر، في مقالةٍ في "ضفة ثالثة") عن عثمان الموصلي، وزكي ناصيف يعترف، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، بأنه اقتبس أغنية "طلوا حبابنا طلوا" ذات الشهرة الواسعة من أغنية شعبية فكاهية، تقول كلماتها: قام الدب تـَ يرقصْ، قتل شي سبعة أنفسْ. وأما أغنية لولو لو لو، لولالاي، الله محيي شوارعكِ يا بلادنا المعمورة، فقد اقتُبست عن أغنية "مفشكلة" لسكّير حلبي، يقول فيها: الله محيي شواربكِ يا جمجمة خاروفا.