حرب أهلية أم نظام أبارتهايد في ضواحي فرنسا؟
كان العالم يتوقّع حربا أهلية في روسيا في ضوء تمرّد مقاتلي قوات فاغنر، وإذا بشبحها يطلّ برأسه في فرنسا. التهبت ضواحي البلاد غداة انتشار فيديو وثّق اللحظة التي أطلق فيها شرطيٌّ رصاصة على صدر نائل، فتى مراهق من أصول جزائرية، في حادثة تفتيش مروري. أغضبت هذه الجريمة الضواحي الفرنسية التي تقطنها غالبية عربية وأفريقية مسلمة، طفح بها الكيل لشدّة معاناتها من التهميش والتمييز والعنصرية والقمع البوليسي. توقّفت وسائل الإعلام الفرنسية وأشباه مثقفيها عند أعمال العنف والنهب المؤسفة، لتغضّ الطرف عمّا أوصل ثالث جيل منحدِرٍ من الهجرة المغاربية إلى هذا الغضب العارم، ومن حشرهم في هامش المجتمع وصنع مشكلات الهجرة وفبركة الجدل حولها. يستعصي فهم ما يجري في فرنسا من دون إدراك أن ما يعيشه أبناء الهجرة المنبوذون اليوم في أبارتهايد الضواحي ما هو إلا امتداد لما عاشه اليهود في فرنسا البارحة، باعتبارهم الآخر غير المسيحي.
لقرون، نفثت المجتمعات الأوروبية ونخبها كراهيتها في اليهود، وحمّلتهم كل الشّرور. وفي فرنسا، لعب الكاتب والصحافي إدوار درومون دورا رئيسا في شيطنتهم في كتاب من 1200 صفحة بعنوان "فرنسا اليهودية" La France Juive (1886)، من أكثر الكتب مبيعا في أوروبا في القرن التاسع عشر. اعتبر درومون يهود فرنسا أجانب وغُزاة يستحيل إدماجهم في المجتمع، واتهمهم بالتآمر ضد الحضارة المسيحية. حمَل صحافيون وأدباء آخرون مشعل الكراهية، وتصدّرهم ليون دودي وموريس وباريس والتحق بهم شارل موراس، مُنظّر نظام فيشي ومُلهم قائده المارشال فيليب بيتان. كان موراس يردّد أن حلّ ما أسماه درومون خطر "فرنسا اليهودية" يكمن في "فرنسا بلا يهود". ترجمت حكومة فيشي تنظيرات الكراهية إلى سياساتٍ عنصريةٍ انتهت بترحيلهم إلى معسكرات الموت النازية.
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، سارعت السلطات إلى تنظيم محاكماتٍ اتسمت بالسرعة والسّطحية والاعتباطية، وطاولت صحافيين وكتّابا، وجهت إلى أغلبهم تهمة "التعاون مع العدو"، بينما كان عداؤهم لليهود لا يقل عن النازية. رغم حوالي 400 محاكمة، لم يُحاكَم أيضا نظام فيشي وسياساته المعادية للسامية، إذ تبرّأت الحكومة المؤقتة بقيادة شارل ديغول من جرائمه بدعوى أن حكومة فيشي كانت غير دستورية. دمّر المؤرّخ الأميركي روبيرت باكستون أسطورة "المقاومة الفرنسية" التي روّجها ديغول ليغسل المجتمع من عار تواطئه مع النازية، في وقتٍ كان فيه ما يقارب 400 ألف جندي مسلم من الجزائر والمغرب وتونس ولبنان وسورية والسنغال يقاتلون ويحرّرون فرنسا وباقي الدول الأوروبية من الفاشية والنازية. بفضل بطولات وتضحيات الشّعوب المسلمة المستعمَرة، تحرّرت فرنسا ووقفت إلى جانب الحلفاء، وحظيت بمقعد دائم في مجلس الأمن، ثم حشدت العالم على أرضها لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس، وإطلاق استراتيجية "القوة الناعمة"، التي ما زالت تسوّق صورة بلد الأنوار والثقافة والفنون والجمال وحقوق الإنسان.
ما يعيشه أبناء الهجرة المنبوذون اليوم في أبارتهايد الضواحي امتداد لما عاشه اليهود في فرنسا البارحة، باعتبارهم الآخر غير المسيحي
غياب مساءلة دولية للمجتمع الفرنسي وإفلات نُخبه من العقاب ساهما في استمرار خطاب الكراهية الذي سيُسلَّط هذه المرّة ضد العرب والمسلمين خصوصا، بعد أن استعصى على الغرب الاستمرار في الجهر بمعاداة اليهود في ضوء جرائم الهولوكوست. غيّرت فرنسا عدُوّها مثل ما تُقلَب القفّازات، فحوّلت "المشكلة اليهودية" إلى "الخطر الإسلامي" بعد أن عبثت سياساتها بالهجرة والمهاجرين المسلمين. لم يُحدِث المهاجرون من أصول مغاربية مشكلة الضواحي، بل فرنسا هي التي حشرتهم خارج المدن، في أطرافها المهمّشة، بناءً على سياسات كولونيالية يلخّصها كتاب بعنوان "الهيمنة البوليسية" La domination policière لماتيو ريغوست (2012)، وكتاب آخر لعبد الملك صيّاد بعنوان "الغياب المزدوج" La Double Absence (1999).
يستعرض الكتابان تاريخ الهجرة المنحدرة من المستعمرات الفرنسية في المغرب العربي التي عانت، منذ بدايتها في الثلاثينيات، من سياسات التهميش الجغرافي والإثني والاجتماعي، والقمع البوليسي. عاشت فرنسا فترة رخاءٍ فيما بين الخمسينيات والسبعينيات. ولمّا كانت في أمسّ الحاجة إلى يدٍ عاملةٍ رخيصة لإعادة إعمارها بعد الحرب، فقد استقدمت أعدادا كبيرة من المهاجرين من أصول مغاربية، أسكنتهم حصريا في مدن صفيح ومساكن عشوائية فقيرة وغير صحّية، بعيدا عن أحيائها النظيفة والفاخرة. وبما أنه لم تكن لدى السلطات الفرنسية أي رغبةٍ في إدماجهم، إذ كانت تتوقع أن يعودوا إلى بلدانهم، اكتفت بإحصائهم ومراقبتهم وقمعهم. وأنشأت لهذه الغاية وحداتٍ بوليسيةً كانت تُحاصرهم في مدن الصفيح وتحبسهم وتُرهبهم وتعتدي عليهم، ومن أشهر هذه الوحدات كتيبتا شمال أفريقيا (BNA) والعدوان والعنف (BAV) وأخرى عرفت باسم كتيبة الهدم (Brigade Z) واشتهرت بهدم المقاهي والمتاجر وغيرها من الفضاءات الاجتماعية لمنع المهاجرين المسلمين من الاستقرار في فرنسا، وبارتكاب جرائم واغتيالات بحق مهاجرين بالجملة في سياق حرب تحرير الجزائر.
مع مرور الوقت، تحسّنت، نوعا ما، ظروف سكن المهاجرين المغاربيين، خصوصا مع بداية إجراءات "لم شمل الأسر" في السبعينيات، لكنه لم يجر استقدامهم إلى داخل المدن الفرنسية لتسهيل دمجهم في المجتمع، مثل ما حدث مع المهاجرين الإيطاليين والبرتغاليين وغيرهم، بل أبقتهم السلطات وظروفهم الاقتصادية المزرية في العزلة الجغرافية والاجتماعية ذاتها. اكتفت السلطات الفرنسية باستبدال مدن الصفيح تدريجيًا بعماراتٍ على شكل أبراج و"بلوكات" إسمنتية في الضواحي، عددها اليوم حوالي 1500 حيّ معزول تؤوي ملايين من المهاجرين وأبنائهم المنحدرين من أصول مغاربية، يعيش حوالي 40% منهم تحت خط الفقر، ويعانون من التمييز في العمل والتعليم وباقي الخدمات. بشهادة رئيس الوزراء الفرنسي السابق إيمانويل فالس، سياسات الدولة الفرنسية مسؤولة عما وصفه بـ"نظام أبارتهايد تُرابي واجتماعي وإثني"؛ نظام يفصل جغرافيا بين مواطنين فرنسيين من الدرجة الأولى يمنحهم الأفضليات والامتيازات في كل مجالات الحياة، ومواطنين من الدرجة الثانية يحصرهم في الضواحي، مثل ما حصرت أميركا المواطنين السود في أحياء لا تختلف كثيرا عن غيتوات اليهود في أوروبا.
كما قادت فرنسا حرب الغرب ضد الحجاب، تبدو "البنت الكبرى للكنيسة" اليوم مرشّحة لتصعيد اضطهاد العرب والمسلمين وطردهم من أنحاء أوروبا
استمرّت السياسات النيوكولونيالية تجاه المهاجرين عبر مأسستها القمع والعنصرية داخل جهاز الشرطة الفرنسية وباقي مؤسّسات الأمن التي تصوّت غالبيتها لصالح اليمين المتطرّف وحزب إريك زيمور الفاشي. في عام 2017، أقرّت فرنسا قانونا يمنح أفراد الشرطة صلاحياتٍ تتماشى مع قوانين قوات الدرك شبه العسكرية، بما في ذلك حقّ إطلاق النار على الفارّين المشتبه بهم أو المعتقلين، وحتى السيارات التي تتجاهل أمرا بالتوقف، إن شعروا بـ"خطر على الحياة"، من دون تعريف الخطر وحيثياته. ومثل ما كان الجيل الأول يراقَب ويُعتدى عليه في أحياء الصفيح، فإن الجيل الثالث مُستهدفٌ بعمليات التفتيش والتدقيق المروري من شرطةٍ تقتل، ولا تحاسب، ولا تعاقب. بدلا من إقرار السلطات وباقي المجتمع الفرنسي بجرائم سياساتها العنصرية، فإن ساكنة الضواحي هي التي تواجه، منذ السبعينيات، تهمة غزو البلاد ورفض الاندماج وتهديد الجمهورية والهوية الفرنسيتين؛ هوية يريدونها خاليةً من مظاهر الانتماء إلى الإسلام، دينا كان أم ثقافة. لقد عكس الخطاب العنصري الآية ليجعل من الجلاد ضحية، ومن الضحية جلّادا متهما بالتآمر على فرنسا وبالعمل على تفكيك الأمة الفرنسية وتدمير الحضارة الغربية"، وممارسة العنصرية ضد الأوروبيين البيض المهدّدين بالإبادة. ولم يكن لهذا الخطاب أن ينتشر لولا أدباء الكراهية، الذين نشروا رُهاب الهجرة والإسلام، مثل ما حرض من قبل عشرات المثقفين على كراهية اليهود.
ففي عام 1973، نشر الكاتب الفرنسي جان راسباي روايته "معسكر القديسين" Le Camp des Saints، التي يحيل عنوانها إلى فقرة في "كتاب الرؤيا" تُصوّر نهاية العالم، التي جسّدها الروائي في وصول ملايين المهاجرين ذوي بشرة سوداء إلى جنوب فرنسا ليغزوا العالم الغربي من أستراليا إلى أميركا ويقضوا على الحضارة الغربية. وبَلور الكاتب الفرنسي أرنو كامو، في عام 2010، نظرية مؤامرة أطلق عليها اسم "الاستبدال الكبير"، زاعما أنه بفعل مؤامرة تحيكها "سلطة خفية"، سيتجاوز عدد الهجرة الجماعية للسكان من أصل غير أوروبي (يقصد المسلمين) عدد السكان الأصليين في فرنسا وباقي أوروبا، التي ستتدمّر هويتها بعد أن يفرض هؤلاء ثقافتهم ودينهم على الغرب. أما الروائي الفرنسي ميشيل هويلبيك، فقد نُشرت له رواية "خضوع" (2015)، يتخيّل فيها وصول عربي مسلم إلى سدّة الحكم في فرنسا وفرضه الشريعة الإسلامية. وفي السنة الموالية، صدرت رواية "الأحداث" للصحافي جان رولان تُصوّر حربا أهلية تدور في فرنسا بين مليشياتٌ إسلامية يمينية متطرّفة ومليشيات يسارية راديكالية، تفصل بينهما قوات حفظ سلام أممية.
ساهمت آداب النفوس المضطربة في فرنسا في إعادة إنتاج نظرية "المؤامرة اليهودية" بصيغتها الإسلامية على مدى ثلاثة أجيال، ولعبت "قضية الحجاب" دورا كبيرا في شيطنة المهاجرين المسلمين. في مقالها بعنوان "فرنسا والحجاب: من معاداة اليهود إلى اضطهاد المسلمين"، تناولت صاحبته كيف جرت فبركة قضية الحجاب على خلفية معاداة اليهود، ليصبح أبناء الهجرة المغاربية دون غيرهم محطّ الأنظار، كالحشرات تحت المجهر، في قلب دائرة جدلٍ مستمر تُحرّكه لوبيات الإسلاموفوبيا من فلاسفة وأدباء ومثقفي البلاط ونسويات العار وصحافة الزيف وساسة العنصرية البدائية التي قادها جان ماري لوبان، وواصلتها ابنته مارين وحفيدته ماريون، انطلاقا من حزب "الجبهة الوطنية" في مطلع السبعينيات إلى حزب "التجمّع الوطني". نهل آل لوبان من عنصرية متجذّرة في الغوغاء الفرنسية التي تصوت اليوم بنسبة 40% لصالح مشروع عنصري يفوح بفيشية (نسبة إلى الجنرال فيشي) لم تُدفن قط.
استمرّت السياسات النيوكولونيالية تجاه المهاجرين عبر مأسستها القمع والعنصرية داخل جهاز الشرطة الفرنسية
ومع تطبيع الخطاب اللوباني، ظهر حزب "الاسترداد"، وسطع نجم مؤسسه الصهيو-فاشي، إريك زيمور، الذي يفخر بتفضيله النازية على الإسلام، ويحثّ على استرداد فرنسا من قبضة المهاجرين، ويدعو إلى ترحيلهم بالملايين، وتطهير البلاد ممّن يعتبرهم أكبر خطر على سموّ الحضارة الغربية، جاهلا أنه يجسّد انحطاطها ووحشيتها. في مقابلة له مع إذاعة راديو أوروبا1 يوم الـ30 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، ردّد زيمور أن شباب الضواحي يشنّون على فرنسا حربا أهلية وعِرقية، وأن على الدولة أن تتصدّى لهم عبر "قمع شامل"، يبدأ بفرض حالة الطوارئ، وينتقل إلى فرض حالة الحصار، وينتهي بتفعيل المادة 16 من الدستور التي تمنح الرئيس صلاحياتٍ عسكرية.
لم يعد موضوع خطر "الحرب الأهلية" في فرنسا يقتصر على الإعلام والدراسات الأكاديمية والنقاش العام، فقد اخترق المؤسسات الأمنية والأوساط العسكرية الفرنسية. في سياق الاحتجاجات التي استجدّت أخيرا، أعلنت نقابتا "شرطة التحالف" والـ UNSA أن رجال الشرطة "في حالة حرب" ضد "جحافل متوحّشة"، وأن على الحكومة أن تعلم أنهم سيكونون "في حالة مقاومة". ولم تأت تصريحات الشرطة التي تتمتّع بحقّ القتل المبني على الهوية من فراغ، بل تندرج في سياق مواقف جنودٍ يحثّون على حربٍ على الأرض ضد مسلمي الضواحي. ففي 21 إبريل/ نيسان 2021، نشرت مجلة "فالور أكتويل" عريضة وقعها نحو 20 جنرالاً ومائة ضابط رفيعي المستوى وأكثر من ألف عسكري آخرين، غالبيتهم من المتقاعدين، حذّروا الحكومة الفرنسية من "تفكّك" فرنسا، وأبدوا استعدادهم لمكافحة ذلك. وفي 11 مايو/ أيار من السنة نفسها، نشرت المجلّة ذاتها عريضة ثانية عن جنود في الخدمة لم يكشفوا عن هوياتهم، يقولون إن "الحرب الأهلية تختمر في فرنسا"، بفعل التنازلات التي قدّمتها السلطات للإسلاميين، تاركة الضواحي عرضة للانحراف، ويبدون استعدادهم أيضا للدفاع عن البلاد.
هذا الخطاب وما يرافقه من قمع بوليسي وسياسات عنصرية يستفزّ شباب الضواحي الثائر؛ شبابٌ يفتقد تأطيرا سياسيا، وقيادات مدنية مثل "بلاك لايفز ماتر" تعبّر سلميا عن مطالبه، ولا يُدرك خطورة توظيف أعمال عنفه في ترسيخ نظام الفصل العنصري في الضواحي وفرض إجراءاتٍ قد تسهّل عقاب الآباء، وترحيل الأبناء بأعداد كبيرة استجابة لمطالب ناخبي إريك زيمور والمجتمع اللوباني. فكما قادت فرنسا حرب الغرب ضد الحجاب، تبدو "البنت الكبرى للكنيسة" اليوم مرشّحة أكثر من غيرها لتصعيد اضطهاد العرب والمسلمين وطردهم من أنحاء أوروبا.