حرب الروايات عالمياً... في كسب العقول والقلوب
أطلق معهد السياسة والمجتمع في عمّان مع مؤسسة مكانة 360 (متخصصة بتحليل مواقع التواصل الاجتماعي)، الأحد الماضي، تقريراً رقمياً مهماً يرصد (ويحلّل) اتجاهات الرأي العام العالمي بخصوص الحرب على غزّة من زوايا متعددة، سواء ما تعلّق بالمنشأ للروايات واللغة والمضمون والدولة والتداول والاتجاهات والمشاعر المرتبطة بالنقاش العالمي على هذه المواقع تجاه ما يحدُث في غزّة.
ولعلّ أبرز النتائج التي قدّمها التقرير، تتمثّل بحجم كبير استثنائي على مستوى النقاش العالمي للحرب على غزّة، إذ وصل عدد المنشورات خلال قرابة أسبوعين إلى 311 منشورا، ووصل التفاعل إلى 1.5 مليار (بين تعليق وإعجاب وإعادة نشر)، لكن النسبة الكبيرة في هذا التفاعل كانت باللغة الانكليزية، ثم الإسبانية، قبل أن يزيح "التفاعل العربي" الإسبانية ليحتل المرتبة الثانية، فيما مثّلت الولايات المتحدة رقم 1 عالمياً، تلتها الهند، ثم فرنسا، قبل أن تتطوّر المشاركة السعودية لتحل محلّ الفرنسية، فيما قاربت المحادثات التي احتوت على فيديوهات وصور نصف ما هو منتشر، وتصدّرت منصّة X (تويتر) المنصّات الرقمية مع تراجع شركة ميتا (فيسبوك وشقيقاتها) بسبب القيود الكبيرة التي تضعها على المحتوى، بخاصة المؤيد للقضية الفلسطينية.
المهم أنّ هنالك تحولاً ملحوظاً حدث منذ 14 الشهر الحالي (أكتوبر/ تشرين الأول)، أي بعد أسبوع على اشتعال الأحداث، نحو مزيد من التوازن وارتفاع منسوب التفاعل المؤيد للفلسطيينيين مقابل هيمنةٍ شبه مطلقة كانت لصالح الطرف الآخر، خصوصا أنّ أغلب المنشور كان بالانكليزية في البداية لصالح التعاطف مع الإسرائيليين بعد العملية العسكرية الناجحة لحماس في طوفان الأقصى، وهو تحوّل يعكس وعياً سياسياً متزايداً لدى الناشطين والسياسيين والفاعلين العرب المناصرين للقضية الفلسطينية بأهمية المعركة الجارية على منصّات التواصل الاجتماعي، الذين بدأوا تنويع المحتوى وتطوير المحتوى واستخدام اللغة الانكليزية ونقد "خطاب الطرف الآخر". وبرزت على صعيد عالمي أسماء عربية (لمحتوى باللغة الانكليزية) لشخصيات مثل باسم يوسف الذي قدّم مقابلة مهمّة وتاريخية في برنامج المذيع البريطاني بيرس مورغان، وظهر حضور كبير للسفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط، ومحمد حجاب وبلال حداد. وأشار التقرير إلى حضور كبير للسياسي الأميركي الناشط، جاكسون هنكل، المؤيد للفلسطينيين (وصلت منشوراته إلى ما يقارب عشرات الملايين من الناس أغلبهم في الغرب).
لم تكن الرواية الإعلامية الغربية المؤيدة لإسرائيل محايدة أو موضوعية، بل اتسمت بالانحياز الكبير
تتوارى خلف الأرقام معركة حامية الوطيس بين الروايتين الفلسطينية - العربية والرواية الإسرائيلية - الغربية، وهي معركةٌ لا تقل شراسةً ولا قوةً، وكذا استخدام التكتيكات الإلكترونية والرقمية، عن المعركة العسكرية على الأرض. ولم يكن التحول المهم والنوعي في حجم الرواية المؤيدة للفلسطينيين (وإن كانت الرواية الإسرائيلية لا تزال متفوّقة نسبياً، لكن مع فارق أقل بكثير مقارنةُ بالبداية) محض مصادفة، وإنما بعد يقظة حقيقية لدى المثقفين والناشطين الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمؤيدين الآخرين لهم في مواجهة البداية المنهجية لوضع الأجندة الإعلامية العالمية، التي مارستها المؤسّسات السياسية والإعلامية الغربية لتأييد الموقف الإسرائيلي في مواجهة حركة حماس، والعمل على شيطنتها، وإلصاق أوصاف فيها مثل النازية والداعشية و"الحيوانات البشرية" و"11 سبتمبر الإسرائيلية".
بالضرورة، لم تكن الرواية الإعلامية الغربية المؤيدة لإسرائيل محايدة أو موضوعية، بل اتسمت بالانحياز الكبير، وكان هنالك تطابق بين المواقف الرسمية للحكومات وتلك الرواية الواضح أنّها وقعت تحت تأثير الدعاية الإسرائيلية ونفوذها الإعلامي العالمي اليوم. ولكن المسألة لا تقف عند حدود الحيدة والانحياز فقط، بل كانت هنالك "غرف عمليات" عالمية قامت على أساس الفبركة للصور والمحتوى، ومليشيات إعلامية، بمعنى الكلمة، اتّخذت من الهند تحديداً مركزاً عالمياً لها، لتبث الدعاية الإسرائيلية، الأمر الذي كشف حجم التحضير والعمل المخفي بين إسرائيل وشركات هندية رقمية عملاقة عالمياً.
بالرغم من أنّ أغلب الجهود المضادّة كانت ذات طابع فردي أو مجموعات، فقد ساهم تطوّر الموقف العربي الرسمي لاحقاً من إدانة الحرب الإسرائيلية على غزّة والدور الذي قامت به شبكات عالمية عربية، في تعديل ميزان الروايات، بخاصة في مجال الردّ على الرواية الإسرائيلية والأميركية المؤيدة لها، وعزّز من ذلك وجود حالة متنامية لدى أوساط في الرأي العام الغربي متشكّكة في نزاهة المؤسّسات الإعلامية والسياسية الغربية، وهو ما أدّى إلى صعود مصطلحات عديدة في اللغة الانكليزية تتحدّث عن الدعاية الإسرائيلية Israeli Propaganda.
المعركة الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي عالمياً في بدايتها، وتحتاج إلى وعي منهجي وعمل شعبي كبير
هل هذه الأرقام والاتجاهات العالمية مهمّة؟ وهل علينا فعلاً إعطاء أهمية للرأي العام العالمي، بخاصة الغربي، في ظل الشعور الغاضب في العالم العربي والمصدوم من التهافت الغربي على دعم إسرائيل إلى درجة التماهي في الخطاب السياسي والمعركة الإعلامية؟ الجواب، قطعاً، نعم، لأنّ حرب الرواية على درجةٍ كبيرة من الأهمية في المجال السياسي، لأنّ الرواية تؤسّس لفهم الأحداث وللقيام بأعمال وتبريرها وصنع السياسات، وإذا كانت هنالك نخبة عريضة في السياسات والإعلام الغربي مؤيدة لإسرائيل؛ وإذا كان هنالك نفوذ معروف تاريخياً للإسرائيليين على مؤسّسات إعلامية غربية كبرى؛ فإنّ مواقع التواصل الاجتماعي الفالتة إلى درجة كبيرة من الرقابة والحسابات السياسية والاقتصادية المباشرة يمكنها أن تُحدٍث مساحاتٍ واسعة للتأثير المقابل، ولبناء رواية عالمية فلسطينية وعربية تعزّز من الأصوات والأوساط الشعبية والمدنية الغربية والعالمية المتشكّكة في ما يبث إليها، وفي "الأجندة الإعلامية" المعدّة مسبقاً من اللوبي الإعلامي الإسرائيلي العالمي.
وكما أنّ الحرب على غزّة لا تزال في بدايتها، ويتوعّدون المدنيين والناس العزّل في القطاع بالويل والثبور، وتبرّر مراكز التفكير والأفكار Think Tanksهناك عمليات الإبادة البشرية، فإنّ المعركة الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي عالمياً لا تزال هي أيضاً في بدايتها، وتحتاج إلى وعي منهجي وعمل شعبي كبير، شبيهٍ بالمسيرات والتظاهرات، لنقد تلك الرواية وتقديم الرواية الإنسانية والسياسية الكفاحية الفلسطينية.