حرب غزّة والمعنى السياسي المفقود
ليست كل الحروب "امتداداً للسياسة بأشكال أخرى"، مثلما يخبرنا المنظّر الاستراتيجي البروسي، كارل كلاوشفيتز، منذ مطلع القرن التاسع عشر. يحصل أن تندلع حروبٌ كبيرة أو صغيرة بلا أي نتيجة سياسية، ولا أي معنى يغيّر شيئاً من المعطيات والشروط التي أشعلت المدافع وأطلقت الطائرات لتنشر الموت من الجو. الحرب الإسرائيلية التي دامت خمسة أيام على قطاع غزة من بين تلك الحروب اللاسياسية إن جاز التعبير. قرّرت حكومة بنيامين نتنياهو وشركائه من ائتلاف اليمين المتطرّف تصفية قيادات من الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي (سرايا القدس) بعملية جوية معقّدة مع علمها باستحالة القضاء على الحركة. قتلت عدداً كبيراً من قيادات المجلس الحربي من دون جرّ "حماس" إلى المواجهة. جاء رد "الجهاد"، بطبيعة الحال، برشقاتٍ صاروخيةٍ طاولت تل أبيب والقدس. 33 فلسطينياً قتلوا بينهم ستة من كبار قادة "سرايا القدس" في مقابل قتيل إسرائيلي واحد. دمار عشرات المنازل والمنشآت هنا، بينما شيء لا يُذكر من الخسائر الاقتصادية هناك. لا تغيير سياسياً، لا هنا ولا هناك.
إن وُجدت ملاحظة سياسية وازنة من حرب "ثأر الأحرار"، أو "الدرع والسهم" بتسميتها الإسرائيلية، فهي إصرار إسرائيل على التفرّد بـ"الجهاد" وتحييد "حماس"، لاعتباراتٍ عسكريةٍ لا سياسية. لم تعد تل أبيب قادرة على تبرير هذا التحييد بأن "الجهاد" فصيل تابعٌ بقراره لإيران، ذلك أن مصالحة طهران و"حماس" أعادت لحركة المقاومة الإسلامية صفة العضو الأصيل في المحور الإيراني إلى جانب "الأشقاء" في اليمن ولبنان والعراق وسورية. جديد الحرب الإسرائيلية التي بدأت الثلاثاء وانتهت السبت، البروز اللافت لمصطلح "غرفة العمليات المشتركة". لكن هذا الدخول لا وزن سياسياً له، رغم محاولات "الجهاد الإسلامي" النفخ في هذه الغرفة لجر "حماس" إلى المعركة، من دون جدوى. يمكن تلمُّس ذلك في بيان نعي القيادي العسكري "الجهادي" إياد الحسني من خلال التشديد على أنه كان المسؤول عن التنسيق المشترك مع "كتائب عز الدين القسام" ثم في التسريبات عن تسليم "حماس" كمية من الصواريخ لـ"الجهاد" لكي تطلقها بدورها على مدن الداخل والمستوطنات. ولمّا فشلت هذه المحاولات في تغيير معطىً سياسي هام (عدم انخراط "حماس" مجدّداً في معركة بين إسرائيل والجهاد الإسلامي)، انطلقت رحلة اختراع معنى سياسي مفقود لهذه الجولة الحربية. حصل ذلك بتكرار رواية انتصارية تفيد بأنّ نتنياهو يهرُب، عبر العدوان، من أزماته الداخلية.
يُعثر على محاولة اختراع معنى سياسي للمواجهة ثانياً في الاحتفال بأن الصواريخ وصلت إلى القدس وتل أبيب، مع علم المحتفلين بأن هذه الصواريخ لم تكن متطوّرة ولا من النوع الذي يوجع الاحتلال عسكرياً. ثالثاً بإشادة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، بمصر التي "بذلت جهوداً كبيرة في كبح العدوان" مثلما أخبرنا يوم الأحد الماضي. لكن ذروة اللاسياسة من الجانب الفلسطيني خلال المواجهة أخيراً تمثلت في سير المفاوضات بالوساطة المصرية المعتادة. الشرط الأساسي من "الجهاد" لوقف إطلاق الصواريخ كان أن تعلق إسرائيل تصفية القيادات العسكرية. ليس المقصود طبعاً أن تعلن تل أبيب وقف سياسة الاغتيالات، بل أن تتوقف عن استهداف مسؤولي الحركة لكي ينتهي "ثأر الأحرار".
أما في الجانب الإسرائيلي، فانعدام السياسة صار سمةً عامةً لم يخرقها سوى الاعتراض الهائل على خطة الانقلاب القضائي الذي يحاول نتنياهو تنفيذه، فالفاشية، حين تبلغ ما وصلت إليه حكومة اليمين المتطرّف، تقفد أي ملمح سياسي. تصبح مجرّد هذيان دموي مصنوع من كره وبشاعة لا تزيدهما قبحاً إلا مكافآت عربية على شكل تهافت مزيد من البلدان على مأدبة تطبيع العلاقات مع تل أبيب من دون أي شرط، غالباً مع اتخاذ مواقف واتّباع سياسات منحازة لإسرائيل ضد الفلسطينيين.
حين تصبح الحرب الكريهة أصلاً، وفي كل الأحوال، بلا أي حمولة سياسية، مثلما كان حاصلاً في الهجوم الإسرائيلي أخيرا، يصبح تمنّي عدم سقوط قتلى من المدنيين هو الكلام السياسي المجدي الوحيد.