حرّية الضحك في مصر

19 سبتمبر 2023
+ الخط -

لعلّها الحرّية الوحيدة التي لا يستطيع أحد منعها في مصر، حرّية الضحك، إذ لا يمكن منع المصري من السخرية من أوجاعه ومآسيه. خفّة الدم المصرية "معالجة" قبل أن تكون علاجا، زاوية التقاط، مقاربة، تسألني الزميلة التونسية فاتن الغانمي كيف يعلق آلاف المصريين على صورة تجمع نجمهم العالمي محمد صلاح مع التونسي علي معلول بأنهم لا يعرفون من يقف إلى جوار معلول؟ فأقول إن "المحدّد" الذي يحكم التعليق هنا هو البحث الجادّ عن "الإفيه"، يستهدف المصريون الضحك في كل شيء، وأي شيء، وكلما ازداد هذا الاستهداف الدؤوب للضحك دلّ ذلك على مرارة العيش وبؤس الحال، هذه هي المعادلة المصرية التي اختصرها أبو الطيب المتنبي في سطر شعري مكثف وخالد: وكم ذا بمصر من المضحكات/ ولكنه ضحكٌ كالبكا. 
يدرك من يحكموننا ذلك، فلا يرفعون الدعم عن الضحك أبدًا. يقدّمونه، عفويا، وأحيانا عن عمد، لزوم تلطيف الأجواء المشحونة بالغضب والحنق وارتفاع ضغط الدم والأعصاب وأسعار السلع وفواتير الكهرباء المقطوعة، والفشل، غير المسبوق شكلا ومضمونا، في كل الملفّات تقريبا، وهو ما يعتبره السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مبرّرا وجيها للبقاء وإكمال المسيرة، حتى تحترق النجوم وتفنى العوالم، ويدلل على ذلك في خطابه أخيرا في محافظة بني سويف بأنه رغم كل شيء، "حاسس".. "بشكل شخصي".. "إن ربنا ساترها معانا".. فمن يجرُؤ على منع الضحك أو المحاسبة عليه بعد تصريحاتٍ كهذه يبدو فيها الضحك حد الصراخ توجّها رئاسيا وشخصيا لدى فخامة الرئيس؟
يتساءل صوت النظام المصري عمرو أديب لماذا لا نأخذ الانتخابات بجدّية؟ يوجّه كلامه للمعارضة ويسأل: أين أنتم؟ يوجّه كلامه للمشاهدين: لماذا تصدّقون الرواية الإسرائيلية في البطل المصري أشرف مروان؟ لا يتوقف عمرو أديب عن تساؤلاته حتى خارج البلاد. يذهب إلى لندن في مهمّة عمل، لكنه لا ينقطع عن مشاهديه، يؤجّر استديو، ويواصل تساؤلاته الكوميدية، لماذا لا تقدّمون برامجكم الانتخابية؟ لماذا تدّعون أن الانتخابات الرئاسية في مصر مسلسل؟ كان من الممكن أن نتوقف عند حدود النكتة الحلوة، والإفيه السهل وغير المتوقّع، وهي مهاراتٌ يتفوّق فيها عمرو عن غيره من الإعلاميين، بل على سيادة الرئيس نفسه، إلا أن إصرار عمرو أديب على تكرار أسئلته، وإلحاحه، وتأكيده أنه يتكلم بجدّ، ونشره فيديو بهذا العنوان، "الانتخابات ناخدها بجدّ"، دفعت متابعين إلى توجيه اللوم إلى المعارضين، بجدّ، وتكرار الأسئلة نفسها بجدّ. يتجاوز ذلك ذاكرة السمكة إلى كائن آخر، لم يُخلق بعد، لا ذاكرة له بالمرّة، إذ إن أي متابع للشأن المصري، ولو على خفيف، ومن بعيد، يعرف أن إجابة سؤال أين المعارضة؟ هي، بداهة، في السجن، رئيس سابق مات في السجن، مرشّحون سابقون مثل عبد المنعم أبو الفتوح وحازم صلاح أبو إسماعيل في السجن، قيادات حزبية، نشطاء، حقوقيون، صحافيون، جميعهم في السجن، كل من يجرؤ على مجرد الإعلان عن نيته الترشّح "الجاد" أمام الرئيس يُقبض عليه ويُسجن، فورا، ولو كان رئيس أركان الجيش المصري سابقا، وقائد السيسي نفسه. كل من يجرؤ على محاولة تنظيم نفسه لممارسة أي عمل سياسي، "جادّ"، فهو بالضرورة مسجون. الجدّية تساوي السجن، ولا استثناءات سوى لكوميديانات مثل موسى مصطفى موسى وغيره. هذا العبث "الوحشي" هو ما يدفع الناس إلى تصديق روايات مسمّمة مثل جاسوسية أشرف مروان (وهي كذبة طبعا) أو غيرها. واقع الحال يفرض نفسه على التاريخ، ويعيد تفصيله على مقاس اللحظة الراهنة، يبحث المصريون عن "سوابق" خيانة قريبين من دوائر الحكم والسلطة لتفسير ما يروْنه يوميا من خيانات العهد والأمانة والدستور والقانون والأعراف وحتى الشرف العسكري، ما يجعل من الصعوبة بمكان إقناعهم بأن "الأصل في الانتخابات هو المشاركة"، ولو كان الأمل واحدا من مائة في المائة، إذ إن الأمل نفسه مع عبد الفتاح السيسي ليس أكثر من نكتة "كالبكا"، مثل نكات عمرو أديب وأسئلته.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان