حصاد العلقم في السودان
يمكن القول إنّ دولة السودان، في شكلها الحديث، بدأ تأسيسها في ما بين 1821 و1822، عندما استولت قوّات محمّد علي، والي مصر، على سنار وكردفان. أجبر ذلك الاستيلاء الذي حدث بالحديد والنار، وأوقع مئات الآلاف من الضحايا في مذابح بشعة، السكّان على تغيير أنماط حياتهم والانخراط في شكل سياسي جديد للحكم. أعقب ذلك توسّع رقعة البلاد المصطلح على تسميتها السودان، وشملت مديريات في ما أصبح لاحقاً دولة جنوب السودان، وإقليم دارفور، الذي شهد استقلالاً مُؤقّتاً قبل أن يضمّه الإنكليز بشكل كامل إلى البلاد بعد نشوب الحرب العالمية الأولى.
الدولة التي استقلّت في العام 1956 لم تعرف الاستقرار إلّا سنوات قليلة في تاريخها المُضطرب، فالاستقلال جاء بعد بداية الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وهي الحرب التي ستستمر منذ 1955 ولا تنتهي إلّا بانفصال جنوب السودان في 2011، مع توقّفٍ سنوات قليلة لم تنتزع منها فيها لقب الحرب الأهلية الأفريقية الأطول.
قبل أن تخمد نار هذا الاقتتال، نشبت حروب دارفور الكُبرى في 2003، وأدّت إلى أكبر جريمة تطهير عرقي وتهجير قسري في القارّة. ورغم مرور أكثر من 20 عاماً على الحرب الأهلية في دارفور، وتوقيع عشرات اتفاقيات السلام، إلّا أنّ الحرب لم تتوقّف، واستمرّ النزوح والتهجير، ما حوّل الإقليم منطقةً منكوبةً يجول فيها الموت بين معسكرات النازحين والمدن المتوجّسة من رياح الحرب.
كما السلام، لم تصمد في البلاد الديمقراطية كثيراً. فبعد عام ونصف من الاستقلال وقعت أول محاولة انقلابية. وتواصلت بعد ذلك الانقلابات العسكرية في السودان لتقارب الـ20 انقلاباً، ما جعلها الدولة صاحبة الرصيد الأكبر في المحاولات الانقلابية.
نجحت هذه الانقلابات في زعزعة الحياة السياسية، ومنحت (مع الحرب الدائمة) للمؤسّسة العسكرية الكلمة الفصل في تاريخ السودان كلّه. وعجز المدنيون عن حكم البلاد، ما خلا فترات قصيرة متباعدة (1956 – 1958، ثمّ 1964 – 1969، ثمّ 1985 – 1989)، لم تكفِ قط لبناء أيّ شكل مدني للحكم. ورغم سقوط الحقب العسكرية كلّها بثوراتٍ شعبية، إلّا أنّ ذلك لم يُقلّل عدد الطامحين والمغامرين في المؤسّسة العسكرية. وشهدت السياسة السودانية الخارجية في فترات الحكم العسكري المتطاول نزاعات كُبرى مع دول الجوار والعالم، وصلت إلى حدّ القتال العسكري مع جيران مثل أوغندا وإثيوبيا. وتورّطت البلاد في تدبير انقلابات ودعم مجموعات مسلّحة في المنطقة والإقليم. كما سخّر نظام البشير البلاد لخدمة التنظيمات الإرهابية وفي رأسها "القاعدة"، وجماعة الجهاد المصرية. كما شهدت العلاقات مع الخليج ومصر وليبيا فترات عداء طويلة.
صاحبت هذه الاضطرابات كوارث مُدمّرة ضربت البلاد الحزينة، مثل كارثة المجاعة التي أودت بحياة الملايين بين عامي 1983 و1984. وهي مجاعة تصنّف الأسوأ في منطقة القرن الأفريقي. ثم عادت المجاعة لتضرب في 1998. كما عانت البلاد من نكبة الفيضانات المُتكرّرة، التي يتحوّل معها نهر النيل من مصدر للحياة إلى مُهدد لها، فدمّر في جموحه البلاد في 1988، ثمّ في 1997، ثمّ في 2013، ثمّ في 2020.
وفي 2018، حين اندلاع الثورة الشعبية ضدّ نظام عمر البشير، كانت الدولة قد وصلت إلى القاع في تدهورها، فكان السودان يحتّل المركز الخامس في الدول الأكثر فساداً، حسب تقرير منظّمة الشفافية الدولية، والمركز السابع في ترتيب الدول الهشّة، حسب تقرير صندوق السلام لعام 2018، والمركز ذاته في ترتيب أسوأ الدول في حرّية الصحافة، والمركز الثامن في ترتيب الدول الأقل حرّية.
مع هذا التاريخ القريب كلّه، الطويل، لا يمكن النظر إلى حرب 15 إبريل/ نيسان (2023)، بشكل معزول عن تاريخ البلاد المنكوبة. لكنّها حصاد الحال المأزوم للدولة المضطربة.