حصار إسرائيل وأميركا في الأمم المتّحدة
كشفت صحيفة ذي إنترسبت الأميركية عن وثائق دبلوماسية سرّية مسرّبة أنّ واشنطن مارست جهوداً حثيثة للضغط على الدول الأعضاء في مجلس الأمن للتصويت برفض مشروع القرار الذي تقدّمت به الجزائر من أجل قبول دولة فلسطين عضواً في الأمم المتحدة، حتى تتجنّب استخدام حقّ النقض (فيتو) بشكلٍ علني قد يعمّق عزلتها الدبلوماسية. لكنّ جهودها فشلت، وأجبرها تصويت 12 دولة لصالح مشروع القرار على استخدام سلاح الـ"فيتو" للمرّة الخامسة في ستة أشهر؛ سلاحاً أجهضت به مطالب وقف النار في غزّة أربع مرّات.
مرّة أخرى، تجد واشنطن نفسها معزولة عن أغلبية أعضاء المجلس، مخندقة مع حليفها الإسرائيلي على نحو لم يعد يترك مجالاً للشك بشأن حقيقة موقفها المتواطئ مع مشروع إبادة الفلسطينيين، الرافض وجود دولة فلسطينية مستقلّة وذات سيادة على أرضها التاريخية، وزيف ترويجها حلّ الدولتين. لكن حجم عزلة دولة الاحتلال وحليفها الأميركي لا يتضّح إلا إذا وضع في إطار أوسع، يبيّن حجم الحصار الذي يفرضه العالم عليهما في ثلاثة أجهزة من أصل الأجهزة الستة الرئيسة، التي تأسّست بموجب ميثاق الأمم المتّحدة: مجلس الأمن، والجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية.
بعد معركة مجلس الأمن، يستعدّ المجتمع الدولي لمواجهة إسرائيل وواشنطن في حلبة الجمعية العامة للأمم المتّحدة، التي تتيح أكثر من خيار، من شأنه أن يزيد الضغط السياسّي على حلف الإبادة. فبمقتضى القرار 76/262، الذي اعتمدته الجمعية العامة في إبريل/ نيسان عام 2022، فإنّ رئيس الجمعية العامة مُلزم بعقد جلسة نقاشية في غضون عشرة أيام عقب استخدام أيّ من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الـ"فيتو"، في حال لم تجتمع الجمعية العامة في جلسة لدورة استثنائية طارئة بشأن الموضوع ذاته. بموجب هذا القرار، قد يقف ممثل واشنطن قريباً أمام الجمعية العامة ليبرّر مرّة أخرى دوافع إجهاضه مشروع القرار، ويستمع بعدها إلى حوالي 140 دولة تعترف بفلسطين. وإذا تقرّر تفعيل هذا القرار، فقد توظّفه المجموعة العربية للعودة إلى مجلس الأمن بناء على تقرير يؤكّد مراجعة الـ"فيتو" الأميركي في ضوء دعم أغلبية الدول الأعضاء لعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتّحدة.
الخوف من أن يتبدّد الصمود البطولي في غزّة، إن لم يُوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ويُكسر جدار الانقسام الفلسطيني
وغالباً، فإنّ فلسطين والمجموعة العربية تناقشان حالياً خيار تفعيل هذا القرار أو عقد دورة استثنائية طارئة، عملا بالقرار 377 ألف (د-5) المعنون بـ"الاتحاد من أجل السلام"، الذي يتيح هذه الدورة متى عجز مجلس الأمن عن صون السلام والأمن الدوليين بسبب استخدام "فيتو" من جانب عضو دائم. ومن المثير للسخرية أنّ واشنطن كانت وراء هذا القرار الذي تبنّته الجمعية العامة بناء على طلبها في عام 1950، على خلفية الحرب الكورية. اليوم، ينقلب السحر على الساحر وتسخّر ضدّها ترسانة القرارات والتوصيات التي استعملتها سلاحاً في وقت ما، بما في ذلك شعار حلّ الدولتين، الذي رفعته، وما زالت، لمنح دولة الاستعمار مزيداً من وقت لاجتثاث الفلسطينيين من أراضيهم وإحلال اليهود بدلاً منهم. وبعد أن كُشف تواطؤها في الإبادة الجارية في غزّة، أصبحت دول العالم تطالب بإنزال الشعار على أرض الواقع، بما يفضح زيف موقفها.
صحيح أنّ توصيات الجمعية العامة، بما فيها تلك التي تصدر في إطار قرار "اتحاد من أجل السلام" غير ملزمة قانونياً بحكم ميثاق المنظّمة، لكنّها تعكس الموقف السياسي الدولي تجاه القضية الفلسطينية. اليوم، الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء ترفض بقوّة حلف الإبادة، وتدافع عن القانون الدولي، وتعزل واشنطن عن قيادة النظام الدولي القائم على سيادة القانون، الذي فشلت في أن تستبدل به مفهوم "النظام القائم على القواعد"، قواعدها. ولعلّ أكثر المواقف الأميركية تعبيراً عن هدم إدارة بايدن النظام الدولي، الذي أقامته واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية، وقوف ممثلها، ريتشارد فيسك، القائم بأعمال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية، أمام محكمة العدل الدولية في فبراير/ شباط 2024، ليلتمس منها ألا تلزم دولة الاحتلال غير الشرعي قانوناً بتنفيذ أيّ انسحاب فوري من الضفة الغربية وغزّة التي تحتلها، بدعوى مراعاة "الاحتياجات الأمنية" لدولة الاحتلال.
إسرائيل وحلفاء الإبادة، اليوم، محاصَرون داخل الأمم المتّحدة من غالبية حكومات العالم، بما فيها حكومات دول غربية "صديقة"، تقف جميعها إلى جانب الفلسطينيين
ضغطت على هنغاريا وجزيرة فيجي كيّ يقفا إلى جانبها ومعها بريطانيا، التي دافعت عن الاحتلال الإسرائيلي أيضاً في محاولة تجنيب حليفها الأميركي تعميق عزلته الدبلوماسية المدوّية في الساحة الدبلوماسية؛ محاولة باءت بالفشل ولم تفرز إلا أربع أصوات نشاز غرّدت خارج السرب. للمرة الأولى في تاريخ محكمة العدل الدولية، تعاقبت أمامها 45 دولة من مختلف أنحاء العالم وثلاث منظمات دولية على مدى ستة أيام، ترافعت خلالها من أجل إنهاء احتلال غير قانوني يدوم أزيد من 57 عاماً.
لكنّ دفاع أميركا المستميت عن آخر استعمار استيطاني له حدود، إذ لم تحاول الوقوف إلى جانب إسرائيل أمام المحكمة ذاتها لمحاولة تبرئتها من تهمة الإبادة الجماعية، التي شاركت في كلّ مراحلها من صنع قرار الإبادة تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، إلى تنفيذه بواسطة أسلحة الدمار الشامل الأميركية. اضطرت إسرائيل أن تمثُل للمرة الأولى أمام محكمة العدل الدولية لتُحاكَم بتهمة ارتكاب جريمة الجرائم بحق الفلسطينيين في غزّة، في قضية رفعتها جنوب أفريقيا، وانضمت إليها كلّ من نيكارغوا وكولومبيا، في انتظار أن تلتحق بهما قريباً أيرلندا.
إسرائيل وحلفاء الإبادة، اليوم، محاصرون داخل الأمم المتّحدة من غالبية حكومات العالم، بما فيها حكومات دول غربية "صديقة"، تقف جميعها إلى جانب الفلسطينيين. لكنّ المشكلة لا تكمن في الدعم الدولي الذي يزداد يوما بعد يوم، وإنّما في الخوف من أن يتبدّد هذا الزخم التاريخي، وهذا الصمود البطولي للشعب الفلسطيني في غزّة، وتضحيات النكبة الثانية، جميعها، إن لم يُوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ويُكسر جدار الانقسام الفلسطيني.