حكايات عن هدر المال السوري
تعالوا نمشي في هذه الحكايات على مبدأ "خطوة خطوة" الذي ابتكره وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في أثناء توليه المفاوضات بين سورية وإسرائيل، وقيامه برحلات "مكوكية" بين دمشق وتل أبيب بعد حرب أكتوبر 1973. أول حكاية؛ حادثة صغيرة جرت قبل نصف قرن، وكنا في المرحلة الثانوية. دخل موجّه المدرسة، ووزّع علينا طلبات انتساب إلى الاتحاد الوطني لطلبة سورية، وسمّى زميلَنا، فارس، أميناً للصندوق، وسلمه سلفة مالية خمسين ليرة، على أن يبدأ الصرف منها بموجب إيصالاتٍ رسميةٍ فور البدء بالأنشطة الطلابية قريباً. وبعد خمسة أشهر، تقريباً، خصّني فارس بسرٍّ رهيب. قال إنه خبأ المبلغ في خزانة ثيابه الداخلية، لأن والده كان صارماً تجاه هذه الأمور، فلو عرف بها لوبّخه، وربما طرده من المنزل، ولم يطالبه أحد بالنقود، فصار يسحب كل يوم ليرة واحدة يشتري بها قرصاً من الشعيبيات، ويأكله بتلذّذ، وبعدما أهدر بضع ليرات، اكتشف أن بائع الشعيبيات عندما دخل الصيف صار يبيع حلوى الهيطلية، الصحن بليرة ونصف، فصار يسحب من المال المخبّأ في خزانته ما يكفيه لشراء شعيبيات وهيطلية، دواليك حتى أجهز على المبلغ كله، فأصيب بالذعر. تخيّل الموجّه ممسكاً بالعصا، ووجهه ينقط سمّاً، ويضربه بعصاه الغليظة من دون شفقة. وبعد تردّد طويل، اعترف لوالده بالسر، فوقع الوالد في حيص بيص، واقترض خمسين ليرة، وذهب إلى الموجّه، وحكى له حكاية ابنه فارس مع أقراص الشعيبيات والهيطلية، وسأله: لمن نسدّد المبلغ؟ فضحك الموجّه وقال: لا تسدد لأحد. لأنهم أقلعوا عن فكرة تنسيب طلاب الإعدادية والثانوية لاتحاد الطلبة، وجعلوه مقتصراً على الجامعات! وعلى فكرة، لقد أهدر لأجله مال كثير.
الحكاية الثانية؛ رواها الباحث جمال باروت في المقهى الثقافي الذي يعده ويقدمه بدر الدين عرودكي لمركز حرمون، تلخص الكم الهائل من العبث الذي يمارسه النظام السوري في علاقته بالبحوث والدراسات والخطط العلمية والمال العام، وهي أن حافظ الأسد، في الثمانينات، لأجل ترتيب علاقاته مع الأميركان، أو لأسباب أخرى، وافق على دعوة وكالة التنمية الأميركية للقيام بمسوح شاملة للأراضي السورية. قامت الوكالة بعملها بشكل جيد، وأنفقت عليها أموالا طائلة، وأنجزت 21 مجلداً. وعلى إثر ذلك، نشأ صراع في القيادة القطرية، وفي الصحافة، تمحور حول سؤال عجيب؛ أنْ لماذا تكلف الدولةُ السورية هيئةً علمية أميركية بإجراء هذا البحث، ولا تكلف هيئة سوفياتية؟ وانتهى الأمر إلى هيئة تخطيط الدولة التي أحالت الأوراق والمجلدات المنجزة إلى معمل الورق في دير الزور، حيث أعيد تكريرها، فسورية، يومئذ، كانت تمرّ بأزمة ورق!
الحكاية الثالثة: أن جمال باروت نفسه، كان يعمل، في سنة 2005، على إنجاز مشروع ضخم يحمل عنوان (سورية 2020- 2025) بمشاركة 264 باحثاً، وأنجز هذا الفريق دراسات على قدر عال من الأهمية، وحينما توجه الباحثون إلى "جمال" بالسؤال عن مصير عملهم قال: قد لا يكون مصيره أحسن من مصير الدراسة الأميركية التي استقرّت في معمل تكرير الورق.
والحقيقة أن عشرات القصص المعبرة عن هذا العبث حدثت وتحدث في سورية التي ما عادت تسميةُ "الدولة الفاشلة" تكفي لوصفها، من نُصُب تذكاري يقام في وسط مدينةٍ ما، وترصد له مبالغ طائلة. وفي اليوم التالي، يقال إنه مأخوذ حرفياً من تصميم يمجّد الصهيونية في إحدى العواصم الأوروبية! فيستنفر البعثيون والمقاومون، ويكلفون متعهداً آخر ليُجري تغييرات على النُصب، يزيل منها ملامح تمجيد الصهيونية، وتصرف عليه أموال طائلة. وفي المحصلة، يتلف الأصل مع التعديلات.. إلى مسلسل تلفزيوني يكلف الملايين، وقبل الانتهاء من تصويره يأتي تقرير إن شخصية الإمبراطور الحقير فيه شبيهة بشخصية حافظ الأسد، فيوقَف تصويره، وتلقى أشرطته، مع الملايين في سلال الوسخ.. وهكذا.