حكاية بيتٍ من غزّة
مثل كلّ المرّات السابقة، أقف أمام خزانتي، فأفتح بابيها العريضين، وأنظر نحو أمتعتي وأغراضي الخاصة، وأتساءل: ماذا عليّ أن أحمل منها لو قرّرت الرحيل عن هذا المكان، وفي كلّ مرّة أفكر أن عليّ أن أحمل حمولة حقيبة سفر واحدة لا أكثر، لصعوبة التنقل في أي مكان من العالم، وكأنّي لفرط سذاجتي قد نجحتُ في العثور على مكان في هذا العالم ألوذ به، وأهرب من هذا الجنون المحيط بي وبعائلتي.
أقفل عائدة إلى طرف سريري، بعد أن أغلق الخزانة الضخمة وأحملق في السقف تارّة، وفي الأرض تارّة أخرى، وأفكّر فيما تتعالى أصوات قصف الصواريخ من حولي، مرّة تكون بعيدة فنجزع ولا نتحرّك، ومرّة تقترب فأترك كلّ شيءٍ مع أولادي ونهرُب باتجاه الطابق السفلي. ومع هذا كلّه، لم ننم خمسة أيام، وقد بدا ذلك واضحاً على وجوهنا فيما تتكدّس أكواب القهوة الفارغة على قاعدة المطبخ، وقد جفّت البقايا في داخلها كما جفّت حلوقنا.
تذكّرتُ أنني كنت أيضاً ساذجةً، حين كان أبي وأمي وبصحبة جدّي رحمهم الله، وفي الأمسيات الشتوية يجمعوننا، إخوتي وأنا، حولهم، ويقصّون علينا ذكرياتهم مع الحروب والهروب والجزع والخوف. وقبل ذلك، هم لا يتوقفون عن تكرار حكاية الهروب الأولى في عام النكبة، وحيث تسلل جدّي مع أطفاله من قريته الصغيرة قرب مدينة المجدل، فيما تسلل جدّي لأمي من مكان أبعد، فقد كان يعيش مع عائلته في يافا، وكيف تعالى صياح الصغيريْن وعائلتيْهما تقترب من حدود قطاع غزّة، فقد كان أبي وأمي لا يزالان طفلين، وجمعتهما الجيرة، رغم أن عائلتيهما قد هُجّرتا من قرية ومدينة.
تحدّث الجميع عن أحوال الحروب التي مرّت بقطاع غزّة وكانت القصص التي أسمعها بمثابة شريط سينمائي يمرّ أمام عيني، فأعيش أحداثه ثم أنساها وأستعيد حياتي بمجرّد أن تُضاء القاعة، ولم أفكّر ولو لحظة بأنّ حروباً جديدة سوف تمرّ بهذا القطاع المنكوب، وسوف أعيشها مع أولادي، حتى وصولهم إلى سنّ الشباب، وتجاوزي الخمسين من عمري. وفي كلّ مرّة، لا أستطيع أن أضيء القاعة، فهناك من يفعل، لكنّني فعلاً لا أعود بكبسة زرٍّ إلى حياتي التي كانت تُضاء بمجرّد أن تنتهي الرواية، فأنا الآن وفي هذه اللحظة أبحث عن طريقة للتحوّل والاستئناف والاستمرار بعد انتهاء جولة من الحرب قبل أيام، والتي استمرّت خمسة أيام أخالها خمس سنوات.
كنتُ أنظر نحو أولادي اللائذين بأسرّتهم فيما القصف يدور حولنا وأصوات الموت لا تتوقف، وأهمس لنفسي بأننا سننجو، وأتجه نحوهم، وأسألهم وأنا لا أنظر في وجوههم: ما رأيكم لو أعددْنا كعكة بالبرتقال، ما زالت لدينا حبّات منها توشك على التلف، لكنّنا نستطيع إنقاذها ونعدّ كعكةً بنكهتها. هنا صاح ابني أنّ علينا أن نتركها تتلف، وأن نوفّر غاز الطبخ، فنحن لا نعرف متى تنتهي هذه الجولة الحمقاء.
وهكذا أعود خائبةً نحو طرف سريري، لأنّي لم أستطع أن أفتح باباً للحياة وسط أبواب الموت التي تفغر أفواهها نحونا بوحشية، وأستمرّ في متابعة الأخبار ويفعل الأولاد مثلي، ويتحدّثون عن هروبٍ محتمل وفقدان كلّ شيء، وبأننا لن نكون أفضل حالاً من أي عائلةٍ تفقد بيتها، وتفقد كلّ شيء فيه في لحظةٍ مع مكالمة هاتفية تأتي بصوتٍ يتحدّث العربية بلسان ثقيل، لكنّه يطالبهم بإخلاء البيت خلال دقائق، وكأنّه يقول لهم شامتاً: استعدّوا للضياع، فأنا أعرف جيداً ماذا يعني لكم البيت.
الآن، وقد انتهت هذه الجولة، وأملاً في أن نجتاز ذلك الخط الفاصل بين اللاموت واللاحياة، نحن نتّجه صوب البحر، لنروي له حكايةً جديدةً للتاريخ، ونجلس أمام شاطئه لنلتهم غداءً شهيّاً حرمنا منه أياماً. وبعد مسيرة تعب، التهمت جزءاً كبيراً من أرواحنا قبل أن نعود إلى بيتنا الذي بات مثل مقبرةٍ من أسمنت تجاور مقبرة لها، لكنّها ذات شاهدٍ من رخام.