حكومة في المغرب بطعم التكنوقراط
بعد عشر سنوات من المشاركة في الحكم، أسدل الستار على حكومة الإسلاميين في المغرب، مع التشكيل الرسمي لحكومة عزيز أخنوش، طبقا للفصل السابع والأربعين من الدستور المغربي، وهي حكومةٌ يمكن القول إنها تأتي طبقا لرغبات القصر من حيث البنية والتشكيل، بل وحتى من حيث الأحزاب المشاركة، وهي الأحزاب الثلاثة الأولى التي تصدّرت نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول).
لا ترجع المقالة هنا إلى الحديث عن مخرجات نتائج هذه الانتخابات، لسبب بسيط كاف وواف، أن حزب العدالة والتنمية نفسه لم يشكّك في نتائجها، ولم يصدر أي بيانٍ يضرب في مصداقيتها. واكتفى بالقول إنها نتائج غير منطقية وغير مفهومة. ولكن هذه السطور ستبرز ملامح هذه الحكومة الجديدة وآمال المغاربة المعلقة عليها لتحسين وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصا أن عديدين منهم زادتهم أزمة كورونا تأزّما، واستفحلت حالات كل من يعمل في نطاق الاقتصاد غير المهيكل، جرّاء إجراءات الإغلاق التي مسّت قطاعاتٍ عديدة.
أولا، لا بد من مقارنة الائتلاف الحكومي الحالي بسابقيه منذ دستور 2011، فهو ائتلافٌ من ثلاثة أحزاب فقط، يجمع أغلبية قوية تضم 263 نائبا من أصل 395، في حين أن حكومة سعد الدين العثماني ضمّت ستة أحزاب، ولم تجمع إلا 240 نائبا، في حين أن سابقتاها، حكومتا عبد الإله بنكيران، ضمتا أربعة أحزاب، لكن بأغلبية لم تتجاوز 217 نائبا. ويمكن القول، بكل موضوعية، إن لبنية الحكومة الحالية السياسية من مقوّمات التماسك والتفاهم ما لم يكن عند سابقاتها، للأسباب التالية:
أولا، التحالف مع حزب العدالة والتنمية في العشر سنوات الأخيرة أملاه الدستور المغربي الذي يعطي الحقّ للحزب متصدّر الانتخابات بتشكيل الحكومة، ولولا ذلك لما تحالفت معه أحزابٌ عديدة قبلت الدخول إلى الحكومة على مضض، بمنطق "مكره أخاك لا بطل"، ثم رغبة في المناصب لا غير، وقد ظهر الاختلاف بين مكوّنات الحكومات المشكلة منذ أول وهلة، كيف لا وهي حكوماتٌ هجينةٌ من حيث الانتماء السياسي، حيث جمعت بين الإسلاميين والشيوعيين سابقا والوطنيين والليبراليين والاشتراكيين.
كل وزراء السيادة حافظوا على مناصبهم، وزراء الداخلية والخارجية والشؤون الإسلامية وإدارة الدفاع الوطني والأمانة العامة للحكومة
ثانيا، ينتمي الحزبان، الأول والثاني، لما تسمّى في المغرب الأحزاب الإدارية، وهي التي خرجت من رحم السلطة، فالتجمّع الوطني للأحرار متزعم الائتلاف أسّسه أحمد عصمان، وهو صهر الملك الراحل الحسن الثاني. أما حزب الأصالة والمعاصرة فقد أسّسه صديق الملك منذ الطفولة ومستشاره والمقرّب إليه فؤاد عالي الهمة. وعليه، هما حزبان تجمعهما أخوة الرضاعة ومنطق الطاعة للوالدة. أما حزب الاستقلال فهو حزب وطني ذو تاريخ طويل وعريق، وفي جعبته تجارب حكومية عديدة، فقد ترأس الحكومة قبل الربيع العربي، وشارك في حكوماتٍ عديدة منذ استقلال المغرب، وبالتالي يعرف جيدا من أين تُؤكل الكتف.
ثالثا، يمكن القول إن الاختلافات في التوجهات السياسة للأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي تبقى أقل من الاختلافات العميقة التي جمعت حكومات حزب العدالة والتنمية الأربع عشر سنوات، فما يجمعها أكثر مما يفرّقها، ما يعطي انطباعا بالتفاؤل في المستقبل لتحقيق البرنامج الحكومي، وخصوصا أن الحكومة تجمع الأمناء العامين الثلاثة لأحزاب الائتلاف، ما يجعل القرارات التي تتخذ داخل الحكومة لا تتعارض مع التوجهات الحزبية.
يجرّنا هذا إلى الحديث عن البرنامج الحكومي، والذي يختزل في كلمة واحدة، تطبيق "النموذج التنموي الجديد" للمغرب وتنزيله، وهو الصادر عن اللجنة الخاصة التي أحدثها الملك محمد السادس، خارج الإطار الحكومي، يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، والتي قدّمت تقريرها الشامل يوم 25 مايو/ أيار الماضي، ليصبح التقرير وتنزيله خريطة الطريق التي وجب أن يتبعها الجميع، وهذا ما ورد على لسان رئيس الحكومة عزيز أخنوش في تصريح تلفزي بعد تشكيل الحكومة، ما يطرح سؤالا عن جدوى برامج الأحزاب السياسية والتنافس في صياغتها وطرحها أمام الناخب المغربي للاختيار، فالبرنامج محدَّد سلفا والاختيارات معروفة مسبقا. ومن هنا، يقتصر دور الحكومة على تنفيذ رؤى وبرامج صيغت خارجها، ما يحجّم فعلها السياسي، وكأنها حكومة تكنوقراط، وهي كذلك.
هي كذلك، لأننا عندما نلاحظ تركيبتها نجد أن كل وزراء السيادة حافظوا على مناصبهم الوزارية، وزراء الداخلية والخارجية والشؤون الإسلامية وإدارة الدفاع الوطني والأمانة العامة للحكومة، حيث لم يحصل أي تجديد. أما وزارة العدل، فمنذ فصل النيابة العامة عنها في عهد حكومة بنكيران، تقلص دورها بشكل كبير، وأصبحت ذات طابع تقني تدبيري، وقد أسندت للأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، بينما أسندت وزارة التجهيز لحزب الاستقلال في شخص أمينه العام، وهي تعتبر معقلا لهذا الحزب منذ أمد بعيد. كما لم يحدث أي تغيير حقيقي في وزارات أخرى، حيث تولاها أناسٌ من داخلها، مثل وزارة الفلاحة التي آلت إلى الكاتب العام للوزارة، بعدما تولاها رئيس الحكومة الحالي منذ 2007.
لإضفاء الطابع السياسي على الحكومات، جرت العادة أن يوزّر تكنوقراط باسم الأحزاب القريبة من الإدارة
لإضفاء الطابع السياسي على الحكومات، جرت العادة، في المغرب منذ الاستقلال، أن يوزّر تكنوقراط باسم الأحزاب القريبة من الإدارة، فيُصبَغون ويُلونون باسم الأحزاب التي تقبل بذلك، وهذا ما دأبت عليه كل الحكومات. وغالبا ما يتولّى هؤلاء الوزراء حقائب جد مهمّة، خصوصا المتعلقة بالاقتصاد والمالية والتجارة والاستثمار، بينما تُسند إلى الوزراء السياسيين الحقائب الخدماتية والاجتماعية والتضامنية، وزارات المشكلات إذا صحّ التعبير، لكن ما يميز حكومة أخنوش أن التكنوقراط استولوا على أغلب الحقائب المهمة، فقد عين ثلاثة وزراء من أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، فقد أسندت وزارة التعليم لرئيس اللجنة، وزير الداخلية السابق شكيب بنموسى، بينما أسند التعليم العالي والبحث العلمي لعضو اللجنة عبد اللطيف ميراوي، وأسندت حقيبة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة لعضو اللجنة ليلى بنعلي، مع إلحاق الأول بحزب الأصالة والمعاصرة والثانية بحزب التجمع الوطني للأحرار، وهي ملفاتٌ يحرص القصر على متابعتها مباشرة.
لا يجادل أي أحد في الكفاءة العلمية، ولا التجارب التي اكتسبها الوزراء الجدد من خلال مواقعهم في شركات كبرى أو في جامعات مرموقة، لكن كفاءاتهم تبقى تقنيةً محضة، وهي بعيدة كل البعد عن الكفاءة السياسية التي يكتسبها المناضل السياسي باحتكاكه اليومي مع المواطنين، ثم داخل الهيئات الحزبية والمجالس المنتخبة، فيصبح قوةً اقتراحية تقترح الحلول، وتطرح البرامج، وتدافع عنها أمام المواطنين، وهو ما لا يستطيع فعله الرجل التكنوقراط، لأن السياسة فن ونضال، ومسار مليء بالتضحيات والتدافع، ورغبةٌ في خدمة الصالح، ولو من دون مقابل.