"حماس"... الفكرةُ قبل كلّ شيء
صرّح مديرُ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، السبت الفائت، بأنّ ''حركة حماس فكرةٌ يصعب القضاء عليها... والطريقة الوحيدة للقضاء على فكرةٍ هي طرحُ فكرةٍ أفضلَ منها''. ويأتي ما قاله بعد أن سبق لمسؤولين قبله في دولة الاحتلال أن أكّدوا أنّ القضاءَ على "حماس" ليس هدفاً واقعياً، بالنظر إلى ما أبدته من قدرة على الصمود والتكيّف مع مجريات الحرب في غزّة.
قد يبدو تصريحه عادياً، ولا سيّما أنّه يندرج في سياق الجهود المبذولة لأجل التوصّل إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، لكنّه في الواقع يعكس مأزق الولايات المتّحدة، التي لم تنجح ضغوطها في استدراج "حماس" إلى صفقة تبادلٍ تخدم أجندةَ حكومة بنيامين نتنياهو، وتتنكّر لتضحيات الشعب الفلسطيني سنةً كاملةً.
أثبتت الوقائع أنّ ما يُرعِب دولةَ الاحتلال تجذُّرُ فكرة المقاومة داخل النسيج الأهلي والوطني الفلسطيني. ولذلك، لم تتوقّف منذ بداية الحرب عن استهداف المدنيين العزّل، وتدمير البنية التحتية من بيوتٍ ومدارسَ ومستشفياتٍ ومراكزَ إيواءٍ ومرافقَ عموميةٍ، بغرض كسر الروح المعنوية للفلسطينيين. وتكشف حالةُ الدمار الهائل التي أصبحت فيها معظم مناطق قطاع غزّة أنّ الهدف الحقيقي من الاستمرار في ارتكاب المجازر دفعُ الفلسطينيين إلى اليأس، بما يجعل مغادرةَ القطاع الخيارَ الوحيدَ أمامهم للبقاء على قيد الحياة. وما يبعث على الإحباط أنّ ذلك يحدُث أمام مرأى العالم ومسمعه، في سقوط إنساني وأخلاقي وسياسي غير مسبوقٍ.
أخفقت إسرائيل في تحقيق إنجازٍ عسكريٍّ ملموسٍ تُقنع به الشارع الإسرائيلي، وخسرت رصيدها من التعاطف الغربي، الذي راكمته الحركةُ الصهيونيةُ بتدوير الأكاذيب والمغالطات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأصبحت في نظر الرأي العام العالمي دولةً مارقةً خارجةً عن القانون الدولي. وفي المقابل، لا تزال المقاومة قادرةً على شنّ هجمات في أكثر من منطقةٍ في القطاع. صحيح أنّها تكبّدت خسائرَ مؤلمةً في الأرواح والمُقدّرات، لكنها لقّنت إسرائيلَ، وحلفاءَها، درساً في القدرة على الصمود وتوظيف الدبلوماسية وتطويعها بكفاءة لإرباك العدوّ، وإضعاف بيته الداخلي. وتشير معظم التقارير إلى أنّه على الرغم من الخسائر التي تكبَّدتها "حماس"، إلّا أنّها لا تزال قادرةً على المناورة، ولا أدلّ على ذلك من عودة قوّات الاحتلال مراراً إلى مناطقَ في قطاع غزّة يُفترَض أنّها '' نظّفتها'' من مقاتلي المقاومة، ما يدلّ على قدرة الحركة (وباقي الفصائل) على إعادة بناء الصفوف بسرعة.
يعكس حديث مدير وكالة الاستخبارات الأميركية عن "حماس"، باعتبارها فكرةً، وعياً أميركياً وغربياً بخطورة شيوع هذا التوجّه في العالم. لقد أحدثت حرب غزّة ارتجاجاً في الوعي العالمي، وأفسحت المجالَ لإعادة قراءة الصراع، واستدعاءِ وقائعه التاريخية الممتدّة أكثر من مائة عام، وتفكيكِ السرديتَين، الفلسطينية والإسرائيلية، في ضوء ذلك. وهو ما يسعى الإعلام الغربي لتطويقه بإبقاء فزّاعة ''معاداة الساميّة'' مرفوعةً في وجه المُؤيّدين للحقّ الفلسطيني، بالتوازي مع استثمار مختلف مصادر القوّة لتكون في خدمة دولة الاحتلال. من هنا، لا تستمدّ فكرةُ المقاومة قوّتها من الظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني (ولا يزال) فقط، بل أيضاً من طبيعة النظام الدولي السائد، الذي تحكمه شريعةُ الغاب، بما يسمح للقوى الدولية الكُبرى بالتغوّل والاستئساد على الدول والشعوب المُستضعَفة، في غياب آلياتٍ دوليةٍ محايدةٍ تتصدّى لذلك.
فكرة المقاومة ردّة فعل طبيعية على سياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة، التي يسعى قادة إسرائيل لصهرها في منظومة عنصرية فاشية. والمنطق يقول إنّ القضاء على هذه الفكرةِ بطرح فكرةٍ أفضلَ منها، يقتضي تغيير الواقع الذي أفرزها. وهو ما يعني شيئاً واحداً؛ وضع حدّ للاحتلال، والاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. عدا ذلك، لن يكون إلّا تسويفاً ومَضيعةً للوقت. ويدرك وليام بيرنز (وغيره من مسؤولي الإدارة الأميركية) ذلك جيّداً، فيحاولون استدراج "حماس" إلى صفقة تبادلٍ، تستعيد من خلالها إسرائيلُ رهائنَها من غزّة، وتواصل بعدها حربها القذرة على الشعب الفلسطيني.