حوار السلطة والمعارضة أم طيور الظلام؟
في فيلم "طيور الظلام"، يجلس الوزير رشدي الخيّال (جميل راتب) في اجتماع مجلس الوزراء، وإلى جواره مدير مكتبه فتحي نوفل (عادل إمام). يتحدّث الخيّال من موقع المنتصر على أعدائه داخل الحزب والوزارة، ويعيد تقديم نفسه، يميل عادل إمام على أذن الوزير ويمنحه مفاتيح المزايدة السحرية على الفاسدين: "الديمقراطية وضرورة الحوار". يتوتّر رئيس الحكومة (حمدي يوسف) ويقاطع قائلا: حوار إيه يا سيادة الوزير؟ همّا دول ناس بتوع حوار؟ يصل المشهد إلى ذروته، حين يكتب عادل إمام في ورقة أمامه "اهبش فيه ده فاسد"، ويمرّرها إلى الوزير الذي ينفّذ ما فيها، بالحرف، فيبدو رئيس الحكومة "كمن يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به". يخبرنا المؤلف، وحيد حامد، في تكثيفٍ مدهش، إن الفاسد وحده هو من يخشى الحوار، وإن الديمقراطية والحوار هما وسيلتا كشفه، ولو من فاسدين آخرين أقلّ منه فسادا وانكشافا.
واجهت دعوة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى الحوار الوطني، في 25 إبريل/ نيسان الماضي، سيلا من الرفض داخل النظام والمعارضة، من ناحية، وتشكيكا ومزايدةً في جدّيتها من ناحية أخرى، ثمّة خط داخل النظام يرفض "التفاهم" مع المعارضة، ويصرّ على المعركة الصفرية، وصيغة إما النظام، الذي يمثل الوطنية، بألف التعريف ولامه، أو المعارضين الخونة، من دون أي توصيفٍ آخر، وهو "الخط" الذي يمثله صاحبنا حمدي يوسف في "طيور الظلام"، الأكثر فسادا ومن ثم الأكثر خوفا من أي مساحة تفاهمٍ يتبعها سياسات نقد ومراجعة تكشفه وتعرّيه. وفي المقابل، خط مواز داخل صفوف المعارضة، المختلفة والمتنوعة، يصرّ على استمرار الصيغة نفسها، فإما المعارضة الشريفة الطاهرة المظلومة أو السلطة المستبدة (وفي رواية أخرى: الكافرة)، من دون أي توصيف آخر.
لا يمكننا تجاوز أصحاب الخط الرافض للحوار، لأنه يهدّد مصالحهم في استمرار "اليغمة"، من دون خطّة لإنجاح هذا الحوار، وللردّ على "سؤال الفيلم" بأن ما يحدث ليس فيلما، وأنه حوار جادٌّ بين طرفين "بتوع حوار"، خصوصا وأن فريقا ثالثا لم يعد يعنيه من أمر العملية السياسية سوى تخفيف المعاناة عن آلاف من المعتقلين والمشرّدين خارج البلاد لأسبابٍ سياسية (لا يمكننا إنكار ذلك)، أو معاناة ملايين الفقراء بالداخل من ضغط الملف الاقتصادي، يشكّك، هذا الفريق بدوره، في جدّية ما يحدُث، ولديه أسبابه، الأكثر وجاهة، وأهمها: الاعتقالات والأحكام التي صدرت بالتزامن مع دعوة الحوار في حق سياسيين لهم تاريخ طويل من العمل الوطني الذي يرتكز، بالأساس، على الدعوة إلى الحوار والتفاهم والحلول السياسية السلمية والتشاركية.
أعلنت لجنة الحوار، منذ أيام قليلة، عن مجلس أمناء الحوار الوطني، وفيهم أسماء مهمة مثل سمير مرقص، وريهام باهي، وعبد العظيم حماد، ونجاد البرعي، وآخرين، بعضهم محسوبٌ على السلطة والآخر يلعب سياسة، وفق الممكن والمسموح، والقاسم المشترك بين الجميع أنهم مبشّرون. تظل السلطة (رأس السلطة تحديدا)، وحدها الطرف الأكثر فاعلية، السلطة هي مصدر الدعوة .. ووسيلة إنفاذها، والضامن لإمكانية استثمارها واستمرارها وتنفيذ نتائجها، السلطة وحدها هي من تملك إيقاف الخط الرافض للحوار، المشجّع على استمرار النزيف، على الأصعدة كافة، من أمراء الحرب داخل النظام، وعلى إبطال حجّة الفريق الموازي، في العالم الموازي لبعض المعارضين، السلطة، بما تملكه من قوة (ونوايا) هي من تملك تحويل الحوار إلى مناظرة ساذجة، يتبارى كل طرفٍ فيها لإثبات صحة موقفه، في الماضي، بطرق شعبوية، ترضي فريقه ومؤيديه، وهي من تملك أن تتجاوز فكرة تجريم الحوار، المتوارثة منذ عصر حسني مبارك، و"خلّيهم يتسلّوا"، إلى تثمينه، بالجدّية في طرح الأسئلة المناسبة، أو الاستجابة لها، والاستعداد لتقبل إجابات مختلفة وفق معيار الأكثر فائدة، لا الأكثر قربا من السلطة. السلطة وحدها هي القادرة على دفع الجميع إلى تجاوز ماضي المرارات المتبادلة إلى مستقبل، يسع الجميع، وفق "شرط السلطة"، كما هو متوقّع، أو وفق عقد اجتماعي جديد، كما هو مأمولٌ، وبعيد.