خريف فرنسا الصاخب

22 أكتوبر 2022

مظاهرة في باريس ضد ارتفاع الأسعار ضمن دعوة النقابات إلى رفع الأجور (18/10/2022/Getty)

+ الخط -

تعرف فرنسا منذ أيام عدّة أحداثاً صاخبة، أجبرت الشارع الفرنسي على تتبع النشرات الإخبارية، وهو الذي عزف عنها ليلتهي بالمنوّعات والبرامج الترفيهية التي يجد فيها متنفساً بعد عناء الشغل، وراحة نفسية تُنسيه ضغط ارتفاع الأسعار التي أصبحت ترهق كاهله وتحدّ من قدرته الشرائية التي تتهاوى يوماً بعد يوم. لم يكفِ هذا، إذ زاد إضراب عمّال مصافي تكرير البترول الذي كاد أن يشل حركة الاقتصاد الفرنسي الأمر بلاءً وشدّة، وبعدما كان الناس يصرخون من أجل تخفيض أسعار الوقود، أصبحوا يفتشون عنه ولو بأغلى الأثمان لقضاء شؤونهم اليومية. أما محطات البنزين التي استطاعت الحصول على التموين فقد استغلت الأزمة لترفع من أسعارها بحوالي النصف، بل إنّ بعضها، داخل المراكز التجارية الكبرى، أقفل نهاراً وفتح ليلاً بسبب طوابير الانتظار الطويلة التي سبّبت عدّة مشكلات أمنية، ومنعت الزبائن من الدخول إلى المحلات التجارية. وبما أنّ الجميع يستعمل البنزين للعمل وللذهاب إلى الشغل، فقد أعلنت شركاتٌ عديدة عدم قدرتها على تحمّل الغلاء وحدها، وعزمها على رفع أثمان منتوجاتها وخدماتها.

تعالوا بنا لنفهم أسباب إضراب عمال مصافي تكرير البترول، خصوصا منهم الذين ينتمون إلى الكونفدرالية العامة للشغل (CGT) فهم لا يطالبون فقط بتحسين قدرتهم الشرائية مع ارتفاع الأسعار، وهو حق مشروع، بل إنهم يطالبون بالتقسيم العادل للغنيمة، غنيمة ارتفاع أسعار الطاقة التي تستفيد منها شركاتهم، ووصل حدّ الحصول على أرباح خيالية؛ وهو موقف يذكّر بموقف عمال شركة كهرباء فرنسا (EDF)، الذين احتجوا على قرار وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، تسقيف أسعار الكهرباء الذي سيحرمهم من اقتسام الكعكة، وتبّا لباقي الشعب الفرنسي، ما دام غلاء الأسعار يخدم مصالحهم.

على المستوى السياسي، أظهرت الأزمة الحالية عجز الحكومة الفرنسية عن مسك زمام المبادرة لإيجاد الحلول اللازمة، حيث كان التلكؤ سيد الموقف، إذ كان بإمكانها إجبار شركة توتال إنيرجي العملاقة على بدء محادثات زيادة أجور موظفيها تحت طائلة فرض ضرائب على أرباحها الهائلة. وبالمناسبة، هذا ما تطالب به أحزاب فرنسية عديدة، حتى من داخل التحالف الرئاسي، حيث قدّم حزب الحركة الديمقراطية (MODEM )، يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، مقترحَ تعديل قانون المالية لفرض ضرائب على الأرباح الفائقة، وهو التعديل الذي قوبل بالرفض، بحجّةٍ مفادها بأنّ الضرائب الاستثنائية على شركة Total لن تُدر من الأرباح على خزينة الدولة سوى مائتي مليون يورو فقط!

حكومة لا تحظى بالأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي، ويمكن أن تسقط في أيّة لحظة إذا توافقت المعارضة على ذلك

يقع هذا كله في ظلّ حكومة لا تحظى بالأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي، ويمكن أن تسقط في أيّة لحظة إذا توافقت المعارضة على ذلك، ما يجعلها كبرج من زجاج يتلقى أحجار ضربات المعارضة التي وإن لم تستطع كسرها الآن، فقد يتأتَّى لها ذلك تاليا، ما يحدّ من قدرتها على اتخاذ القرارات الجريئة التي تُظهر من خلالها خطّها السياسي واضحا جليّاً، فبدت متذبذبة متردّدة في عدّة ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية. وهكذا التجأت رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، يوم الأربعاء 19 أكتوبر/ تشرين الأول، إلى استخدام المادة 49.3 من الدستور لاعتماد الجزء الأول من مشروع قانون المالية لعام 2023، من دون طرحه على التصويت أمام البرلمان، وتتيح هذه المادة المثيرة للجدل للحكومة تمرير قانون الموازنة العامة أو ميزانية الضمان الاجتماعي بالقوة، من دون اللجوء إلى التصويت، لكنها تُعرّض الحكومة للمساءلة إذا طلب عُشر النواب ذلك، وتعطي للمعارضة حقّ حجب الثقة وإسقاط القانون والحكومة معاً.

سحب الثقة أمرٌ مستبعد لعدّة أسباب، أولها عدم رغبة أحزاب اليمين الانصياع وراء رغبة اليسار المتشدّد، والعكس صحيح. ثانيا، قد يكون إسقاط الحكومة خبرا سارّاً للرئيس ماكرون الذي يمنحه الدستور الفرنسي حقّ حل البرلمان وإعادة الانتخابات، لكنه لا يريد أن يسقط في الفخّ الذي وقع فيه الرئيس الأسبق، جاك شيراك، عندما حلّ البرلمان لتعزيز أغلبيته، فإذا به يخسر الانتخابات، ويضطر إلى تعيين الاشتراكي، ليونيل جوسبان، وزيرا أول. وعليه، إسقاط الحكومة كفيل بمنح الذريعة الكافية للرئيس لحل البرلمان، بحجّة عرقلة المعارضة للعمل الحكومي. ثالثا، أحزاب المعارضة، وخصوصا المتشدّدة والمتطرّفة منها، وبالخصوص على اليمين تدرك أنها لن تحصل على عدد المقاعد نفسها، كونها استفادت من ديناميكية الحملة الانتخابية الرئاسية آنذاك.

أظهرت الأزمة الحالية عجز الحكومة الفرنسية عن مسك زمام المبادرة لإيجاد الحلول اللازمة، حيث كان التلكؤ سيد الموقف

كلما استُعمل البند الدستوري المذكور، قامت قيامة المعارضة لشجب هذا البند والتنديد باستعماله. ففي سنة 2006 وصفه الرئيس، فرانسوا هولاند، بأنه "بند نكران للديمقراطية ووسيلة خشنة لإعاقة ومنع النقاش البرلماني". لكن هذا لم يمنعه من استعمال البند نفسه بعد وصوله إلى الرئاسة. إضافة إلى ما ذكرنا، تجد الحكومة الحالية نفسها في حالة تناقضٍ بيّن، إذ إنها في وقتٍ تبرّر فيه تدخلها الحازم لوقف الإضراب وإلزام العمال للعودة قسرياً إلى العمل، بحجة احترام رأي الأغلبية النقابية التي قبلت بمقترحات زيادة الأجور، تفعل الحكومة عكس ذلك في البرلمان بتمرير مشروع الموازنة ضدّاً على رأي الأغلبية، هو الكيل بمكيالين في واضحة النهار، لكنها لعبة السياسة في أعتى الدول الديمقراطية.

زاد جدل السياسة وطيساً بسبب استغلال اليمين المتطرّف حادث مقتل الفتاة لُولا، ذات الاثني عشر ربيعا، وقد كان لهذا الحادث العرَضي المأساوي أن يُصنّف، كغيره من الجرائم البشعة الشنيعة، قضية حق عام، لَولا أن المتهمة شابة جزائرية في وضعية غير قانونية على التراب الفرنسي، وصدر بحقها أمر بالطرد. وهكذا أخذت القضية أبعاداً سياسية، حيث صرّح زعيم حزب الاسترداد، إيريك زمور، بأن "هذه الجريمة مقصودة من الأجانب لقتل الفرنسيين"، وهي نوعٌ مما سماه Francocide. أما قصر بوربون، مقر الجمعية الوطنية، فقد عرف ملاسنات حادّة بين الحكومة وبعض برلمانيّي اليمين واليمين المتطرّف، وهكذا هاجمتْ المرشحة الرئاسية، مارين لوبان، رئيسةَ الوزراء، إليزابيث بورن، قائلة: "المشتبه في ارتكابها هذا العمل الهمجي، ما كان ينبغي أن تكون موجودة على الأراضي الفرنسية"؛ وهكذا يجري تأجيج العداء والعنصرية، وكأنّ الهمجية والقتل صنيعة سلالة عرقية، وكأن أصل مصائب فرنسا وجود أبناء هذه السلالة الذين يشار دائما إلى أصولهم وأعراقهم، كلّما ارتكبوا ما لا يُرضي، أما إذا كانوا فخر فرنسا وسمحوا لها بالحصول على الكرة الذهبية مرّتين، فهم بالتأكيد فرنسيون أقحاح رغم زين الدين زيدان وكريم بنزيمة.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط