دراما الصمود السوري
كيف تقرأ العقول في مناطق سيطرة النظام الأحداث المتعلّقة بقصف مواقع عسكريّة ومخازن سلاح تابعة لإيران في سورية؟ وما هي نوعيّة التحليلات التي كانت لونا الشبل، مستشارة بشار الأسد، تقدّمها لجمهور الموالاة عبر شاشة "إخباريّة" النظام؟
لا بد أن النشاط الميدانيّ أخيرا في مواجهة تمدّد إيران في المنطقة، قابله الغرب عبر قصف متكرّر ومباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل، لا سيما بعد توجّه إيران نحو الساحل قرب اللاذقية، الأمر الذي أثار حفيظة روسيا، وسرّع من وتيرة القصف الإسرائيليّ والأميركيّ لقواعد إيران في سورية، وذلك شأن آخر في مشهد فصام الوقائع الذي يعيشه نظام الأسد عبر إعلامه، مهتماً بتصوير مشاهد تمثيليّة لوصول بشار إلى مكان فاخر للغاية، يجتمع فيه مئات من مواليه وأعضاء برلمانه وعدد من مثقفيه، على إيقاع عزفٍ حيّ لفرقة موسيقيّة، ثم قالوا إن هذه التمثيليّة "مراسم القسم الدستوريّ لولاية رئاسيّة رابعة"!
بلد تفوق فيه قدرة الإنسان على تصديق أنّه يتنفس حقاً من دون أن يدفع لجيش الأسد ثمن الهواء من دمه
بعد ذلك بأيام، ظهرت لونا الشبل، للتحدث عن ضرورة "الصمود الإيجابيّ"، وأنّ دور جيش النظام قد انتهى، وجاء دور "الشعب في الصمود" ربما سنوات طويلة أخرى، والصمود هنا "الخَرَسْ". واتجهت الشبل التي تدير إعلام النظام إلى الحديث عن المعارضة، معتبرةً إياها "غير وطنيّة". وفي المقابلة، فسّرت، حسب مراجعها الأسديّة، أنّ بشار "لا يقدّم وعوداً، بل رؤية"! وبالتزامن مع كلّ هذا الهرج الإعلاميّ الذي تقوم به ماكينة الأسد، وتسمح لمزيد من السوريين بالتندّر والسخرية من ذلك، تقدّم الدول الإقليميّة "رؤيتها" الواقعيّة، مستخدمةً القصف الجويّ لاستهداف وجود إيران في ريف حلب والقنيطرة وحمص واللاذقية وغيرها من المدن والمناطق التي يزعم النظام إنه يسيطر عليها وفق صموده الإيجابيّ ذاك؛ أي المحتفظ بحق الردّ دائماً، ويجيبه البيت الأبيض، من جهته، بالقول: "نقل إيران الأسلحة إلى حزب الله يهدّد الأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة للولايات المتحدة" وهذه إشارة خضراء جديدة، ثم يأتي التفسير؛ قصف إسرائيليّ مجدداً لسورية، هذه المرّة كانت الضربات على مطار الضبعة العسكريّ، والقصير في ريف حمص الغربيّ، مستهدفةً مواقع لمليشيا حزب الله اللبنانيّ.
أخيرا، زار وزير الخارجية الصيني دمشق، ضمن خطة الاستحواذ المتداولة إعلامياً لدى الصين، عبر إغراق الدول المتأزمة والمتحاربة بالقروض والحماية الشكليّة لأنظمتها الطاغية أمام مجلس الأمن، تحت مزاعم الحفاظ على شكل الدولة، حسب ما فهمنا. وهذا الاستثمار السياسيّ أعطى الشجاعة لرأس النظام، من أجل ردّ الزيارة السياسيّة الصينيّة، عبر النزول إلى حيّ الميدان برفقة عائلته، والتقاط الصور إلى جانب أحد محلات الشاورما، محاولاً، ربما، تحويل قيمة هذا الحيّ التاريخيّ الذي انتفض ضدّ نظامه، منذ الأشهر الأولى للثورة السوريّة، إلى قيمة سطحية متعلقة بطعام العابرين والسندويش. ولا يفوّت جهاز الدعاية في منصاته الإعلاميّة فرصةً مثل هذه إلا ليعكس صورة "القائد البسيط" الذي يزور الأماكن الشعبيّة، بينما صدى الفيديو الشهير "تعبت من الانتصار" لأحد الموالين لنظام الأسد، تزداد شعبيته وشهرته التي اختصرت الادّعاءات المستمرّة "بالنصر" إلى درجة قال فيها صاحب هذا الفيديو على مواقع التواصل الإلكترونيّة: "أريد الذهاب حصراً إلى الدول التي انتصرنا عليها... أريد دولة مهزومة... أريد أن أعيش عيشة الذليل، أهلكتني حياة المنتصر..."!
تحوّلت سورية إلى سجن مأجور، ترتفع أسواره كلّ يوم أكثر؛ أسوار حول العقول والفهم والمنطق
سورية اليوم هي بلد من الدرامات (جمع تكسير لمفردة دراما اليونانية الأصل)، بلد تفوق فيه قدرة الإنسان على تصديق أنّه يتنفس حقاً من دون أن يدفع لجيش الأسد ثمن الهواء من دمه، وأنّه يرى عذاباته اليوميّة على شاشة التلفزيون في ترف مراسم "القسم" المكلفة مادياً، ويضحك على عتمته وتقنين خبزه ومائه، وينتظر مزاعم الانتصار في خطابٍ "تشبيحيّ" للواقع الرهيب، حيث يصبح عقله جزءاً من دراما تقوم على بيع الوعود والحجج الواهية بمحاربة "الإرهاب"، بينما يقبع آلاف المعتقلين ممن لا يريدون الأسد تحت أرض فروع الموت "الأمنيّة". يرهب بهم الأسد موالاته، حتى لا يفكّرون بالغضب، وكل ما شعروا بدنوّهم أكثر نحو الأرض لسماع صوت من يئنون من ثمن الحرية، تَمَسّحَ هؤلاء بالصور والظهور الفنتازيّ قرب شاورما الأسد وعائلته، وقد يكون كل من حوله في الصور هم من عصابته. على الرغم من ذلك، وحتى لو كانوا موالين من دون سلاح ووظائف قتل، فهم شركاء بمعنى من المعاني في كتابة فصول دراماهم اليوميّة التي يخرجها هذا النظام بواقعيّة فجّة تغلي بديكورات من كذب، والمصطلحات المخدّرة من نوع أسبرين الانتصار على العقل، والسعي دائماً إلى تحويل وظيفة خلايا الدماغ السوريّ فقط إلى ناشر لتردّدات "العبوديّة المختارة" وقواعدها، حسب وصف الكاتب الفرنسيّ إتيان دو لا بويَسي.
يسود اعتقاد واسع أنّ البلاد تحوّلت إلى سجن مأجور، ترتفع أسواره كلّ يوم أكثر؛ أسوار حول العقول والفهم والمنطق، إمّا أن تتلوّث وتكون شريكاً بالدم، حسب فلسفة الشراكة بلعبة الحرب والبقاء للأقوى، للأكثر اجراماً، أو أن تجلس بلا صوت أو ردّة فعل أو حتى صمت حياديّ. كن صامتاً دائماً لبناء المجتمع الأسديّ والدفاع عنه؛ حسب شعار طلائع "البعث" وشبيبتها. وبالمناسبة هنا، سوف تنتقل كلّ "الكوادر" في الهيئات الرديفة لحزب البعث (الحاكم) بأمر الأسد إلى وزارة جديدة يطلقها النظام تحت اسم "وزارة الشباب والرياضة" حسب ما تروّج آلة الدعاية في إعلامه. وبالتالي، مهما راهن النظام على تصدير صورة الحياة "الشفافة" والبلاد "المفيدة" والصمود "الإيجابيّ" فإنّ الواقع عكس ذلك كليّاً، والرغبة بالانسلاخ عن البقاء في ذلك السجن تزداد مع مرور الأيّام، ولننظر قليلاً إلى جدوى الحراك الدوليّ من أجل "اللجنة الدستوريّة" والحلّ السياسيّ وفق قرارات مجلس الأمن، وحتى المساعدات الإنسانيّة لسورية؛ وسوف نجد أنّ أحداً لا يستطيع اختراق التفاهم الروسيّ مع دول الملف السوريّ، باستثناء إيران المغضوب عليها من الغرب، إيران الخطر السياسيّ على العرب، الخطر الذي جعل أيضاً من سورية أرضاً لعصاباتها، وسموماً طائفيّة لسكّان هذا السجن الذي على هيئة بلادٍ مقسّمة بين الحلفاء، فيما شعبها يتحسّس وجوده، هل هو حقاً مستعد لمزيد من حلقات "دراما الصمود" أم أنّ صور "شاورما الأسد" سوف تشفع لعقولهم بمزيد من العبوديّة طوعاً؟