دردشة عن الدجاج والخطابات
يمكن أن نتحدّث في أكثر الموضوعات أهمية وخطورة بطريقة الدردشة. وللعلم؛ أعظمُ كتب التراث العربي النثرية كُتبت بهذه الطريقة، وفي مقدمتها كتب الجاحظ، والتوحيدي، وأسامة بن منقذ. الأغرب من هذا أنني، أخوكم، تقصدتُ أن أضع كلمة دردشة بين هلالين، حينما استخدمتُها في زاويتي "كأس شاي مع القراء" في "العربي الجديد" (13/9/ 2020)، لاعتقادي أنها عامية. ولكن، وبالتدقيق؛ تبين أنها فصيحة، وردَ ذكرُها في قاموس المعاني، والمعجم الوسيط، وتاج العروس، وتعني اختلاط الكلام في المجالس.
الدردشة، بمعنى اختلاط الكلام، تحمل معنى سلبياً يشبّهُه السوريون بحَمَّام النسوان عندما تنقطع المياه عن المستحمّات، وأظن في هذا ظلماً للمرأة، فلو انقطع الماء عن حمّام الرجال لحصل الشيء نفسه. ولكن الشعب أعطى الدردشة معنى إيجابياً حينما استخدمها بمعنى تبادُل الكلام والآراء بهدوء ومحبّة، بعيداً عن لغة الخطابات و"توجيهات القيادة الحكيمة"، وعن الكلام المقعّر المتفلسف الذي يريد قائلُه أن يوحي لمستمعه بأنه "فهمان زيادة عن اللزوم". ولأجل التسلية، أفيدك بأن الفلاح السوري عندما يرى شخصاً يلقي خطاباً إنشائياً نارياً فيه صمودٌ وتَصَدٍّ وممانعةٌ وسحقٌ وتطهير، يسترجع في مخيلته منظر دجاجة تملأ الدنيا قوقأةً في لحظة وضعها البيضة فيقول: فلان عم يبيض! ومما يروى عن فلاح من ديرتنا قوله إن أكثر دجاجاته قوقأةً هي التي تبيض بيضة صغيرة.
يقول لك السوري، لكي يقنعك بوجهة نظره: أخي، خذ كلامي، وألق نصفَه في البحر. ويقول: نصف الكلام ما لَهُ جواب. والفلاحة المصرية التي كنا نشاهدها في أفلام السينما، حينما تريد أن تمتدح الكلام الجاد، تأتي بجملة طويلة فتقول "الله الله عَالجد، والجد الله الله عليه، والمكتوب عالجبين لازماً تشوفه العين". .. وقد أبدع أستاذنا الراحل، حسيب كيالي، حينما شبّه هذا النوع من اللغو بعمل الحلاق الذي اعتاد أن يضرب بمقصه تسع ضربات في الهواء، والعاشرة في شَعر الزبون الجالس أمامه، وفي أثناء ذلك لا يتوقف عن الكلام، لأن "شيخ الكار" الذي علّمه الحلاقة كان قد لقّنه أن من أساسيات عمل الزبون أن تسليه، لتتركه متيقظاً، لئلا يسترخي ويحل عليه التعب، وينعس، وينام، فتؤذيه، لأنك تتعامل مع وجهه بآلات حادّة كالموسى، والمقص، والملقط، والشمع المذاب.
ينعكس هذا اللغط، في المحصلة، على المجتمع، فيرفع تكلفة الإنتاج، ويخفض المردود، وقد كنا نسمع حكاياتٍ عن ولع المجتمع الياباني بالتوفير، من ذلك إقدامهم على إلغاء كلمة "ألو" من المكالمات الهاتفية، ليقينهم أن هذا يوفر مئات الملايين من الثواني التي يستغرقها لفظ "ألو" يومياً وسنوياً، فما بالك بمكالمات العرب التي تبدأ بـ السلام عليكووم بدلاً من "ألو"، والسؤال عن الحال وصحة المتكلم، وسترة الحال، وصحة الوالدين والزوجة والأولاد فرداً فرداً، حتى يصل إلى السؤال الذي جعل الكمبيوتر ينفجر (شو في؟ شو ما في؟).
يتصوّر كاتب هذه الأسطر، أخيراً، أننا لن نبلغ ما نصبو إليه من تطوّر، إذا لم نتخذ قدوة ومثالاً من حكاية الصياد عبدو بَخّورة الذي خرج مع أخيه الأصغر لصيد الحجل.. وهذا النوع من الصيد، لعلمكم، صعبٌ جداً، لأن الصياد لا يرى الحجلة واقفةً على غصن شجرة، أو مرتفع صخري، ولكنها تطير حينما يمرّ بقربها. أما طريقة صيدها فهي أن تكون بارودة الصياد ملقمة، وهو ماشٍ في سفح الجبل، وحينما تفر من قربه حجلة، يسدّد ويطلق النار عليها وهي طائرة. ولحم الحجل، للعلم، لذيذ، كان الصيادون يبيعونه للمطاعم الفخمة في حلب، لتقدّمه لزبائنها مشوياً أو مقلياً، وبأسعار مرتفعة. المهم، كان في جعبة عبدو بخورة ستون طلقة، تقاسمها مع أخيه، وفي آخر النهار كان معهما 59 حجلة، فزعل عبدو من أخيه، وقال له: نحن جايين نصطاد، وَلّا جايين نلعب؟!