دروس في دعوى جنوب أفريقيا للعدالة في مصر
شهدت محكمة العدل الدولية في لاهاي يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني 2024 جلسات استماع في القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا، والتي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، وذلك في الدعوى التي قدمتها في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بالمخالفة لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي وقّع عليها البَلدان، المدّعي والمدّعى عليه.
من أهم دروس هذا الحدث أنّ العالم العربي فوجئ، وربما استغرب، خطوة دولة جنوب أفريقيا، فرغم جرائم إسرائيل المتكرّرة ضد الفلسطينيين والعرب، طوال عقود، اتضح أنه لم تجرؤ دولة عربية أو إسلامية على تقديم دعوى قضائية ضدّها، مستخدمة الآليات القانونية المتاحة. ومن المؤكّد أن الضغوط السياسية وقفت حائلاً بين الدول العربية والإسلامية وبين اللجوء لمثل هذا الموقف، لكن تحرّك بريتوريا فتح الباب ربما على مصراعيه أمام خطوات مشابهة. كما أن تحرّك دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، في لاهاي، فتح جرحاً غائراً في الضمير الإنساني، ونافذة على الجرائم المنسية، بعدما لفتت ناميبيا، فجأة، إلى الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الألماني بحقّ شعبها بين عامي 1904 و1908، والتي عرّفتها بأنّها أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وجاء الإعلان الناميبي ردّ فعل على انضمام الحكومة الألمانية لإسرائيل في المحكمة، بعدما أعلنت أنها ستتدخل كطرف ثالث لدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدّها. ويبدو الموقف الألماني كأنه يشير إلى أنّ أسهل طرق التكفير عن ارتكاب مذبحة وإعلان التوبة والندم مساندة مذبحة أخرى أشدّ وأنكى، يقول قائل، وكأنّ المذابح تُنسي بعضها، والأحدث منها يغطّي على الأقدم! فيما يؤكد موقف ناميبيا أن الجرائم ضد الإنسانية لا تُنسى ولو مر قرن عليها. الأمر الثالث أن منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية اعتبرت أن جلسات استماع محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية خطوة ضرورية للمساعدة في حماية المدنيين الفلسطينيين، وتوفير بصيص أمل بتحقيق العدالة الدولية. وأعتقد أن الخطوة يمكن أن تتسع لتتجاوز قطاع غزّة، وتمنح المظلومين أملاً، وفرصاً للاحتماء بمظلة العدالة، عبر الآليات الأممية والاتفاقيات الدولية في حلّ النزاعات، وتحقيق السلم والأمن الدوليين. لقد أعادت بريتوريا الحياة لهذه الآليات، وأعادت ضخّ الدماء في شرايين مؤسّسات العدالة، حيث ظهر مدى أهمية العمل الذي قامت به تلك الآليات، وتوصيفها وقائع الجرائم اليومية في غزّة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، أهمهم المقرّران الخاصّان، وفي القلب منهم المقرّرة الخاصة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة في التعريف القانوني بجرائم الاحتلال اليومية بحقّ الفلسطينيين.
بات ممكنا استخدام القانون الدولي، في العمل على متابعة المجرمين وجلب الأشخاص الذين بدوا بعيدين عن متناول العدالة
وتؤكد القضية على أهمية المساءلة الدولية في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وقوانين الحرب. ففي 24 مايو/ أيار 2021، صرّح المقرّر الأممي الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، مايكل لينك، أن المدافعين عن حقوق الإنسان الدوليين والإقليميين (لم يسمّهم) يحضّرون قضية ليكونوا قادرين على عرضها على محكمة الجنايات الدولية، بشأن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، فاعتقاد الجناة بحمايتهم، دوماً، من العقاب يفتح باباً لتكرار جرائمهم، كما يضيف قتلة محتملين إلى قوائم الجرائم، فالتعاطي الليّن مع الجرائم لا يوقفها، بل يساعد على تكرارها، ومنح الجناة فرصاً للاستقرار، وتعدّد أنماط جرائمهم وأشكالها.
وقد أزالت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا الكثير من الضرر الذي طاول ثقة المتابعين والمهتمين بالشأن الحقوقي، بالقانون الدولي والإجراءات الدولية، فقد بات ممكنا استخدام القانون الدولي، في العمل على متابعة المجرمين وجلب الأشخاص الذين بدوا بعيدين عن متناول العدالة. وأتذكّر هنا جهود المحامي الحقوقي ريد برودي (عمل في قضية الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه) ومناصرته القانونية ضحايا الفظائع، ما أكسبه لقب "صائد الديكتاتوريين". يقول في مقابلة صحافية: "الأمر يتعلق حقّاً بمساعدة الضحايا أنفسهم ليصبحوا صائدين للديكتاتوريين، بحيث يكون لدينا جيش كامل من الضحايا كمدافعين وحتى كمحققين في قضاياهم". ناصحاً "بالمثابرة والاجتهاد وعدم الاستسلام" فالمؤكد أن عصر الإفلات من العقاب لن يستمر إلى الأبد.
تظهر محاكمة إسرائيل أهمية الاتفاقيات الدولية في حلّ مشكلات على الساحات المحلية والإقليمية، والدولية، وهي رسالة واضحة إلى جماعات عديدة في المعارضة المصرية
لم يحمِ التأييد السياسي الواسع والدبلوماسية الرسمية إسرائيل من المثول أمام العدالة، لكن افتقاد الإرادة الحقيقية حمى قادة الانقلاب العسكري في مصر من المثول أمام العدالة، وضاعت بين دروب البيروقراطية، والتماهي مع الحسابات السياسية وادّعاء الحنكة والتحليل وامتلاك الأدوات، وتقدير الموقف، أرواح أكثر من 1100 قتيل، بينهم نساء وأطفال، قتلوا في ميدان رابعة العدوية بوحشية، في بثّ مباشرٍ على الهواء، وتواطؤ القضاء المصري في عدم جلب الجناة إلى العدالة، بل حكم على من نجا من القتل في الاعتصام بأحكام قاسية وصلت إلى الإعدام والسجن المؤبد. ولم توضح جماعة الإخوان المسلمين مصير المسار القانوني الذي تحرّكت فيه خطواتٍ تكلفت ملايين الدولارات، ثم توقف فجأة! لكنّ العودة إلى المسار الصحيح تفتح طريقاً للأمل، فتلك الجرائم لا تسقُط بالتقادم.
ودرس سابع لمحاكمة لاهاي، أهمية وجود مجتمع حقوقي ناضج وواعٍ ومهني واحترافي يستطيع مساعدة الضحايا بشكل مهني باستخدام المسارات القانونية والسلمية، من دون أن يكون طرفاً في معركة سياسية، فجمع الأدلّة والشهادات الموثقة بشكل جيد لدعم الادّعاءات كان إحدى نقاط القوة في ملفّ جنوب أفريقيا. وقد شهدت جلسات الادّعاء مبارزة بين فريق احترافي يملك الوثائق والدراية والمعرفة وآخر سياسي يملك حكايات من غابر التاريخ وقصص مؤلمة وسرديات أسطورية، بدت ضعيفة للغاية وفيها ثغرات كبرى، وانتهت المرافعات والمرافعات المضادّة بغلبة ساحقة للفريق الأول، ما يعكس أهمية دور المنظّمات الحقوقية والإنسانية في توثيق الانتهاكات. وكانت أبرز نقاط القوة لدى الفريق القانوني المدّعي شهادات الحض على الكراهية، والتشجيع على الإبادة الجماعية، واستهداف المدنيين بشكل مباشر من دون تمييز، باستخدام الأسلحة التي تسبّبت في جرائم قتل على نطاق واسع، وتدمير البنية التحتية وقصف المستشفيات وأماكن العبادة، والتصريحات التي تدلّ على وجود "عنصر النية" من تصريحات السياسيين والجنود وأعضاء البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ورئيس الوزراء والوزراء، لـ "تدمير مجموعة ذات خصائص معينة". ولا تختلف تلك التصريحات والممارسات عن التي نضح بها الإعلام المصري في أثناء مذبحة فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، وعبارات مفتي مصر السابق علي جمعة التي دعا فيها القوات إلى القتل و"الضرب في المليان".
أهمية وجود مجتمع حقوقي ناضج وواعٍ ومهني واحترافي يستطيع مساعدة الضحايا بشكل مهني باستخدام المسارات القانونية والسلمية
وثامناً، تظهر المحاكمة أهمية الاتفاقيات الدولية في حلّ مشكلات على الساحات المحلية والإقليمية، والدولية، وهي رسالة واضحة إلى جماعات عديدة في المعارضة المصرية، أن المعاهدات والآليات الدولية ليست احتماءً بالخارج، وليست تقليصاً من دور الداخل أو مؤشّر عدم ثقة به، وإنما تُعتبر أساسا للحل المستقبلي، فنحن، للأسف الشديد، ندفع حالياً ثمن ثلاث سنوات من عدم اهتمام المعارضة المصرية، وفي القلب منها الإسلاميون، بالتصديق والتوقيع على المعاهدات الحقوقية الدولية، حينما أتيحت لهم الفرصة لذلك بين 2011 و2013. والأدهى عدم نشر تقارير جهات التحقيق المصرية في وقائع ما بعد الثورة، ودور الجيش فيها، وهو ما يدفع ثمنه المصريون باهظاً الآن.
وأتذكر في هذا الإطار كمّ السذاجة التي وقع فيها الإخوان المسلمون، ورفض لجنة حقوق الإنسان في مجلسي الشعب والشورى (كانت للإخوان أغلبية مقاعدهما) الموافقة على التوقيع على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (دخلت حيّز التنفيذ في 1 يوليو/ تموز 2002) واعتبار المحكمة مسيّسة، تحت وهم ما جرى مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، والخوف من أن يتم ذلك مع الرئيس المصري، وهو ما وفر لنظام انقلاب 2013 فرص الإفلات الدائم من العقاب، رغم تماديه في ارتكاب جرائم عديدة توجب جلبه إلى العدالة.
وينبغي أن تُذكّر جولة جنوب أفريقيا في لاهاي ذوي الضحايا والجماعات والقوى السياسية المجني عليهم في مصر بالحاجة الملحّة للتحرّك في مسارات فعّالة للمساءلة، اعتماداً على آلية واقعية للرصد والتوثيق، ودراية بالآليات وتفسير المواد، والاستناد إلى الوقائع الثابتة وتكييفها تكييفاً قانونياً صحيحاً، بوصف الوقائع التي يعيشها الآلاف من المعتقلين والضحايا في مصر منذ يونيو/ حزيران 2013 أنها جرائم ضد الإنسانية، تأسيسا على نصوص القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وعلى نصوص اتفاقيات الأمم المتحدة التي تشكّل الإطار الموضوعي لاختصاص الولاية القضائية العالمية في تلك الجرائم وولاية محكمة الجنايات الدولية. وتؤكد القضية أيضاً أن الارتقاء بالملفّ الحقوقي ورفعه عن الخلافات السياسية، والتفكير في سبل العدالة والإنصاف، هما جوهر العملين الحقوقي والإنساني، وهو ما سيبقى في مصر في حال زال النظام القمعي الحالي، وكُسرت عشرية القهر والطغيان، وحقبة الاستبداد التي أغرقنا فيها.