رسائل إغلاق القضية 173 في مصر
مع التطوّرات الإقليمية الحادثة أخيراً، تبرُز مصر نقطة محورية في العلاقات الدولية، خصوصاً في إطار شراكتها مع الاتحاد الأوروبي، وهي الشراكة التي تلقي الضوء على جوانب عديدة، بما في ذلك الوضع الحقوقي في مصر، الذي أصبح موضوعاً للنقاش والتساؤل عما إذا كانت هناك فعلاً صحوة حقوقية تلوح في الأفق، أم أن الأمر لا يعدو جزءاً من حملة ترويجية حكومية.
يقف المجتمع الدولي أمام تحدٍّ كبير في التعامل مع الوضع في مصر. فمن جهة، هناك حاجة ماسّة لدعم الاستقرار والتنمية في البلاد. ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. يتطلّب الأمر موازنة دقيقة ومستمرّة بين هذه الأولويات، مع تأكيد أن احترام حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية يجب أن يكون في صميم أي عملية تحوّل وشراكة دولية. من الضروري تبنّي مقاربة شاملة تجاه الإصلاحات الحقوقية، تشمل ليس فقط الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإنهاء ممارسات التعذيب والاختفاء القسري، بل أيضاً تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كانت القضية 173 لسنة 2011، المعروفة إعلامياً باسم "التمويل الأجنبى لمنظّمات المجتمع المدني"، والتي لم تتجاوز قيود النظام مع رموزها المنع من التصرّف في أموالهم والسفر إلى الخارج، بمثابة مسمار جحا للنظام المثقل بالديون والأزمات، فكلما صدر بيان ضدّه من أميركا أو أوروبا أو هجوم أو هجاء، سارع بفتح القضية بشكل شكلي، أو بتهديد روتيني، فيصمت الغرب، ويتمادى هو في انتهاكات الآخرين، مثل ما حدث للزملاء في التنسيقية المصرية للحقوق والحريات التي سحقها بشكل كامل. وفي لحظات الهدوء والتواصل الحميمي، ترفع أسماء بعض المنظمات من القضية، وقيود السفر على بعض أشخاصها.
لن يحتاج النظام في مصر حاليا لترويج تحرّكاتٍ يظهر فيها أنه بدأ بالتراجع عن سياساته المستمرّة في مواجهة المدافعين عن حقوق الإنسان
لم يعد لدى المجتمع الحقوقي، طوال السنوات الأخيرة، أدنى شك، في أن هذا النظام الراديكالي محميٌّ بشكل أساسي من عدد من شركائه الغربيين، وليس لديهم أدنى استعداد لخسارته بزعم أنه لا يوجد بديل له، حتى إن إصرار بعضهم على استمرار وجود منظّمات القضية 173 وحمايتها، ووضعهم كخط أحمر للنظام لا يستطيع تجاوزه، كما أشار مقال سابق للكاتب في "العربي الجديد"، كان هدفه كشف جزء من انتهاكات النظام وفضحها، لاستغلالها من أجل تحقيق مصالحهم، خصوصاً في مجال وقف الهجرة غير الشرعية، من دون أي اعتبار للوضع الحقوقي في المجمل الذي ظل يتنقل من أسوأ إلى أسوأ، وبلغ ذروته أخيراً، بعد مرور عقد من عمر النظام.
لن يحتاج النظام في الفترة الحالية لترويج تحرّكاتٍ يظهر فيها أنه بدأ بالتراجع عن سياساته المستمرّة في مواجهة المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية، فالعالم منشغلٌ عن ممارساته ولا يهتم إلا ببقائه، كما أنه لم يُطلب منه صراحة ذلك، حتى إن رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، كانت تأخذ بيد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في مهرجان الشراكة مع الاتحاد الأوروبي أخيراً، بالتزامن مع إعلان القضاء الإيطالي رغبته في استدعائه للتحقيق في تعذيب طالب الدكتوراه جوليو ريجيني وقتله مع خمسة من المصريين، قتلهم جهازه الأمني بدم بارد للتغطية على الجريمة وتقديمهم قتله مفترضين.
كما يمكن القول إن النظام الذي قام في 2013 أسّس نموذجاً قمعياً منهجياً مستمرّاً، كان الأقدر من المجتمع الحقوقي على التعامل مع الغرب، وكان أكثر فهماً لدوافعهم، لذا نجحت مناوراته معهم على الدوام، واحدة تلو الأخرى، كما أنه تعامل مع ملفّ حقوق الإنسان كما يتعامل مع الملف الاقتصادي والأزمات الشعبية، إذ يطرح وعوداً كثيرة، ويفعل النقيض، يتعهّد بتقليل نسب الفقر، ثم يعوّم العملة، يتعهّد بالتصدي للتجار وخفض الأسعار، ثم يرفع أسعار الوقود والغاز، فيعُم الغلاء! يؤكد في كل لحظة وفي كل وسيلة (حتى في إذاعة القرآن الكريم) وبأيْمان مغلظة بحفظ تراب الوطن، ثم يتنازل عنها جزراً ومدناً وسواحل ومواني، حتى إن الأجيال القادمة قد تفشل في التعرّف إلى ملمح الدولة المعروف.
لم يعد لدى المجتمع الحقوقي، طوال السنوات الأخيرة، أدنى شك، في أن هذا النظام الراديكالي محميٌّ بشكل أساسي من عدد من شركائه الغربيين
يتكلم النظام في وادٍ، ويطبق إجراءات مغايرة في الواقع. يشنّ حملات الإساءة والتشويه والشيطنة والاتهام بالخيانة والعمالة للخارج، كما اتهم أحد رموزه الإعلاميين الزميل حسام بهجت، وهو يستعرض صورته مع رئيس الوزراء البلجيكي، ثم ينهي قاضي إحدى أهم القضايا التي استمرّت عقداً ونيفاً بتوجيه من السلطة التنفيذية في جزء من الثانية، وقبل أن يعود قادة أوروبا أدراجهم أو يجفّ مداد الاتفاقيات، وكأنها لم تكن. حتى إن أحد رموز لجان النظام، اعتبر هذا الحال دليلاً على تسامح النظام مع معارضيه ومن يسيؤون إليه، وكأن ثمن الاتفاقية برمتها "وهبرة" التمويل إغلاق القضية 173.
وفي أحد فصول القضية (المتحركة) أصدر قاضٍ في سبتمبر/ أيلول 2021، قراراً بحفظ التحقيق المتعلّق بستة مدافعين، ورفع حظر السفر بحقهم، وأوقف تجميد أصولهم، ومن بينهم عزة سليمان وإسراء عبد الفتاح ونجاد البرعي: والغريب أن بيان مؤسّسة دعم العدالة، التي يترأسها ناصر أمين، اعتبر أن قرار قاضي التحقيق في القضية، أن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية بحقّ خمس منظمات، لا يعني إغلاقها بالكامل، وقال إنه لم يشمل كل المنظمات.
لو حللنا قرار قاضي التحقيق أخيراً إغلاق القضية 173 ضد المنظمات الحقوقية وسياقه الزمني، نجد أن له علاقة بالاتفاق المعلن أخيراً، الخاص بالشراكة وترفيع العلاقات الأوروبية ونتيجة غير مباشرة له، حيث أراد النظام إرسال رسالةٍ إلى الشركاء الغربيين بأنه يتعامل مع ملفّ المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان كرهائن و"كارت" مساومة يرتبط مباشرةً بتعاملهم مع الملف الحقوقي، وأنه لا يأتي بالتهديدات، بل بالامتيازات. وبالتالي، حينما يتغاضون عن الانتهاكات التي يرتكبها، سيعمل على تخفيف قبضته وبطشه ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية، خصوصاً التي لها تواصل مباشر مع الآليات الدولية، والعكس صحيح. ويرسل رسالة معلومة ضمنياً، بأن القضاء خاضع تماماً لسيطرته، وفي جاهزية للإدانة أو التمرير والتفويت.
موجة جديدة من حملات البروباغندا الباهتة تقتضيها ضرورات تعويم النظام ومتطلباته في اللحظات الأخيرة، وسحبه إلى أعلى المياه من جديد
ذلك كله علماً أن المادة الـ78 من قانون العقوبات التي تعاقب بالسجن المؤبد (بعد تعديل الرئيس السيسي في سبتمبر/ أيلول 2014) كل من حصل على أموالٍ من الخارج بغرض "ارتكاب عملٍ ضارٍّ بالمصالح القومية أو باستقرار السلام العام أو استقلال البلاد ووحدتها أو القيام بأي من أعمال العدو ضد مصر أو الإضرار بالأمن والنظام العام"، وغيرها من المواد سيئة السمعة والمشبوهة، ستظلّ سيفاً مسلطاً على رقاب الحقوقيين، بتحريكها إلى الإمام والخلف على رقعة الشطرنج.
ملمح آخر يخصّ الاتحاد الأوروبي، أنهم لم يعودوا يتغاضون فقط عن الاهتمام بملفّ حقوق الإنسان، من أجل ملفي الأمن والمهاجرين، بل عملوا على تمويل (ودعم) منظمات حقوقية معروفة بصلتها بالنظام وخدمة سياساته أمام الأروقة الدولية لتحسين صورته، وهي أحد أهداف الاستراتيجية الوطنية المعلنة، التي ربما كان بعضُهم يسخر منها في وقتٍ ما، لكنها، بمرور الوقت، باتت واقعاً، وقد تتزايد وتيرتها بعد اتخاذ منظمات حقوقية جادّة كثيرة موقفاً مغايراً للدول الأوروبية في أزمة غزّة، بينما يتبنّى النظام المصري وأذرعه الحقوقية سياسات الاتحاد الأوروبي، وربما يزايد عليها في تجريمه المقاومة.
لا يمثل إغلاق القضية شيئاً، ولا يمكن اعتباره إعادة تمركز أو تحوّل في المنهجية أو السلوك كما يزعم بعضهم. هو لا يتجاوز موجة جديدة من حملات البروباغندا الباهتة تقتضيها ضرورات تعويم النظام ومتطلباته في اللحظات الأخيرة، وسحبه إلى أعلى المياه من جديد، وليس إلى شاطئ الأمان، وفقرة امتنان وشكر لن تستمر طويلاً.
سياستنا هي أهمية ربط أي شراكة مع النظام المصري نتيجة لتغيير في سياساته المرتبطة بالملف الحقوقي، وفي مقدّمتها عدم تجريم العمل الحقوقي
سيستمر النظام في مصر في تكبيله عمل الحقوقيين وتجريمهم بقوانين مختلفة واستهدافهم بأحكام غيابية وقرارات ضبط وإحضار ووضعهم على قوائم الإرهاب والانتقام من أسرهم بسبب عملهم الحقوقي، فلم تكن القضية 173 الإشكال الوحيد للاستهداف والاستنزاف، ولن تكون الأخير.
سنعمل، نحن الحقوقيين المصريين، بعزم وجد على تصحيح ذلك المسار لوضع الملف الحقوقي على أولوية أيّ مسار للشراكة مع النظام. سنعمل على إبلاغ المجتمع الدولي بنتائج تلك الاتفاقية على المسار الحقوقي وحقيقة ما يرتكبه النظام بحقّ المعتقلين السياسيين وبحقّ المهاجرين في مصر بأموال الاتحاد الأوروبي، فسياستنا واحدة، وهي أهمية ربط أي شراكة مع النظام المصري نتيجة لتغيير في سياساته المرتبطة بالملف الحقوقي، وفي مقدّمتها عدم تجريم العمل الحقوقي وفتح المجال العام، وتفكيك ترسانة التشريعات والممارسات الوحشية، وإلغاء الأحكام الغيابية بحقّ الحقوقيين، والإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين، في محاولة لجلب نزر يسير من السلم الاجتماعي في البلاد، وقطع الطريق أمام أي ردّات فعل محتملة ضد ممارسات النظام وجرائمه وانتهاكاته وقمعه على مدار عقد.
وأخيراً، يظلّ دور المجتمع المدني المصري والمنظّمات الحقوقية حاسماً في رصد الانتهاكات والدفاع عن الضحايا والضغط من أجل التغيير. من الضروري توفير الحماية والدعم لهذه الجهود من المجتمع الدولي لضمان استمراريتها وفعاليتها.