دمي ودموعي
رأيتُها للمرَّة الأولى والأخيرة، طفلة صغيرة في الثامنة من عمرها، والمكان أحد الأحياء الشعبية في منطقة إمبابة في مصر، وكنت في زيارتي الأولى إلى مصر، وكانت زيارة مصر التي ما زلت أعشقها، بالنسبة لفتاة تحيا سنوات مراهقتها الحالمة، في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حلمًا كبيرًا، فقد تخيَّلت مصر التي أراها في أفلام السينما، حيث قصص الحب الدافئة وبرامج الأطفال التي يظهر فيها الأطفال ذوو البشرة النضرة والملابس النظيفة، ولكن زيارتي الأولى قلبتْ حلمي، وتركت غصّة في قلبي، حين أشارت زوجة خالي نحو طفلةٍ بالكاد تستطيع السير على قدميها، وتطلق تأوُّهاتٍ خافته، وقالت كلمة واحدة: مسكينة...
لم أرَ الطفلة للمرَّة الثانية، حيث استيقظت، بعد عدَّة صباحات، على صوت صراخ وعويل يصدران من الشقَّة المقابلة، وعلمت أن الطفلة الصغيرة قد ماتت، ولفَّ المكانَ صمتٌ، بعد جلبةٍ سريعة، انتهت بخروج الجثمان الصغير إلى مأواه الأخير، ولم أعلم سبب وفاتها، ولا سبب تأوُّهاتها، وخطواتها البطيئة، برغم نظرات أمي التي كانت تحمل الألم والاستسلام، وترديدها الكلمة نفسها: مسكينة...
سنوات كثيرة توالت، حتى اكتشفتُ أن ما تعرَّضت له الطفلة هو عملية ختان مميتة، من دون تخدير، تسبَّبت بالتهابات وتلوُّثات أدَّت إلى حدوث حالة تسمُّم في الدم؛ بسبب عدم العناية بمكان استئصال جزءٍ حسَّاس من جسدها، وباستخدام آلة حادَّة، غير معقَّمة، وغالبًا ما تكون شفرة الحلاقة التي يستخدمها الرجال لحلق لحاهم. وهكذا انطوتْ صفحةٌ في قلبي، عن الظلم الذي يتعرَّض له جنس النساء، وفُتِحتْ، بعد ذلك، صفحاتٌ أخرى، تحمل تساؤلاتٍ بلا إجابات، منها: لماذا يحدث هذا لنا، نحن النساء؟ وقد شهدتْ طفولتي ومراهقتي حوادث اغتصاب وقتل؛ بداعي الدفاع عن الشرف، بحقِّ فتيات مظلومات عرفتهن عن قرب، أو عن بعد.
في اليوم العالمي لمناهضة ختّان البنات، والمصادف يوم السادس من فبراير/ شباط، تعود الذكرى المؤلمة، ومعها قصص مشابهة كثيرة سمعتها، علاوة على حوادث قرأت عنها، من خلال وسائل الإعلام، عن بنات صغيرات ذهبن ضحية عادة ختان البنات، وما يتعرَّضن له من مخاطر تهدِّد حياتهن. والغريب أنه على الرغم من كلّ الجهود التي تبذل للقضاء على هذه الظاهرة التي كانت جذورها غالبًا في منطقة وادي النيل، وتمارس منذ أكثر من ألف عام، إلا أن العادة ما زالت مترسِّخة، حتى مع شعوبٍ تهاجر إلى بلاد راقية، ولا تعتمد هذه العادة، مثل بريطانيا، حيث أظهرت السجلات، في مركز معلومات الرعاية الاجتماعية والصحية، أن نحو 5702 حالة جديدة من ختان البنات قد سُجِّلت في سنة واحدة، لفتيات بريطانيات من أصل صومالي، وقد تعرَّضن للختان في بلادهن الأصلية، في أثناء الإجازة المدرسية، حيث يستغل الأهل الإجازة، والعودة إلى بلادهم، للقيام بهذه العملية بحقِّ بناتهن، واللواتي لا يدلين بالشهادة ضد ذويهن؛ بسبب ما ترسَّخ في عقولهن أن هذه العملية المؤلمة والمهدِّدة لحياتهن واجبة، ومنقذة لهن من الوقوع في الرذيلة، وشهادة عفَّة أمام المجتمع.
مرت سنوات على سن قوانين عالمية تجرِّم الختان، إلا أن ثغرات الفتاوى الدينية تتيح لهذه الظاهرة الاستمرار بحقِّ البنات الصغيرات، مثل أن تظهر ثغرة تبيح الختان للضرورة، والتي يستغلُّها جهلاء وذوو عقول مغلقة لاستمرار عادةٍ تهدِّد حياة المرأة، على المديين القريب والبعيد، فإن لم تهدِّد حياتها، بعد إجراء العملية مباشرة، فهناك مضاعفات تحدُث للمرأة المختونة، في أثناء الولادة، تهدِّد حياتها وجنينها مستقبلًا. وعلى الرغم من أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، قد صرَّح، هذا العام، أنه سيتم القضاء على هذه الظاهرة، مع حلول عام 2030، إلا أن ذلك لا يعني أن ليس هناك امرأة، في مكان ما، ستقبض على ذراع صغيرتها، وتتحسَّس طريقًا وعرة، في حلكة الليل، وتسلِّمها ليد أخرى، تقطع جزءًا من لحمها، وتتركها تنزف، حتى تموت. سيحدث ذلك، ولن يتوقف، ما دامت النظرة إلى الأنثى أنها جسد وعضو، يرتبط به الشرف والعار. وهناك من يرى أمانه الظاهري باستئصال هذا جزء من هذا العضو من جسدها.