رابعة .. أن تكون كريماً مع الموت
كان يمكن لأهل الاعتصام في ميدان رابعة العدوية في القاهرة أن يكونوا كانتحاريين بأحزمتهم الناسفة من فوق العمارات، أو من خلف الجماهير والحشود، قبل أن تأتي الآلة العسكرية للقتل والحرق والقنص عن قرب وعن بعد. كان يمكن لهم أن يختاروا أي ميتةٍ أخرى غير هذا الموت الكريم جدا والسهل جدا، لو كانوا يبحثون عن دماء للخصم. كان يمكن لهم، وفقا لما اتُهموا به زورا، ألا يكونوا لقمةً سائغةً كريمة لأسلحة القتل والقنص والحرق والتجريف من السيارات المجهزة والعمارات التي تم تفريغها من ساكنيها ليلا استعدادا للمجزرة. كان يمكن لهم فعل أي شيء للصدّ عن أنفسهم، غير أن يموتوا هكذا في شجاعة من ينتظر موته، وقد فجر مجرى مبدأ الثبات أمام عيون العالم الباحث عن العدل والخير والحق والجمال.
كان يمكن لهم، كجماعة مارقة عن الدين كما قيل، وتريد أن تفجّر الوطن وخيره، كما أرادوا أن يفجّروا القناطر الخيرية، كما أشيع، أن يقاتلوا حتى آخر نفس، لا أن يُلفّوا هكذا في الأكفان البيضاء بالمئات مرصوصة في المساجد، طالما عندهم "50 ألف انتحاري" كلهم ينتظرون إشارة إصبع خيرت الشاطر كي يفجّروا الوطن، لا في ميدان وحيد، كرابعة، لكن في كل ميادين مصر، حتى أن خيرت الشاطر نفسه خرج من غرفة نومه بجلبابٍ أبيض، ولم تظهر في يده حتى "سكّين مطبخ"، وبجواره زوجته في شقة سكنيّة، لا في قلعة الصبّاح ولا في كهوف تورا بورا.
حينما تتأمل هذه المشاهد كلها الآن بعد هذه السنوات، تتأكّد أن "رابعة" كانت صناعةً بشعةً في منتهى العنف، بيد من لا شرعية له، كي ينال الحكم بقسوة الدم والحرق والجرّافات والقنص، وتكون تلك المشاهد دائمة أمام ناظري كل من يريد، أو يفكّر أن يقترب من "الكرسي" لأن الكرسي لهم فقط، سواء أخذوه بالسكين، أو الرصاص، أو القتل، أو الكذب، أو التزوير، بلا صفوف طويلة تقف من الصباح حتى المساء بالملايين، وبلا شفافية ولا يحزنون. أما الصناديق فليس لها من مكان سوى الدفن في التراب والنسيان.
درس "رابعة" ليس قاصرا على وقت حدوثها، ورمي رائحة القتل والدماء بها في "حِجر الببلاوي"، بل ممتد إلى الآن وفقا لمقتضيات الظروف وفقا للصواب والخطأ. "رابعة" هي "القتل والهروب إلى الأمام بأي ثمن" بالدعاية بالملايين لإعلام الغرب، بالمهرجانات، بحفر محور قناة سويس لم تكسب مليما، بالديون الخارجية والداخلية، حتى بتغطيتها ببناء القصور، وجنازات الفنانات "وكأن الشعب خدم مغضوب عليه". "رابعة" هي تأميم القضاء، حتى الشق الإداري منه. "رابعة" هي إبراز صورة محمد رمضان قدوة يتمرّغ فوق ملايين الدولارات، ويغني أيضا ما بين الرياض وأبوظبي، والسواحل المصرية. "رابعة" هي صناعة المسلسلات التي تسخر من الدماء. "رابعة" هي أن يكون ضابطا "أهان الشعب" قبل الثورة يترأس لجنة حقوق الإنسان. "رابعة" هي خنق المنقولين في سيارة الترحيلات وبراءة الضابط. "رابعة" هي ألا يحاكم أي ضابط، بتعبير رأس النظام، في أي جرم. "رابعة" هي أن يبحلق أحمد موسى في ملايين المشاهدين، ويقول صارخا: "عاوز دم". ويعلن شيخٌ معمّم يحفظ كتاب الله، وهو علي جمعة: "اضرب في المليان"... "رابعة" هي مأساة قرن بلا أي مبالغة، وكربلاء قرن، وسكات عالم عن جرمٍ يعرف أنه غير شبيه بأي جرمٍ في هذا القرن. وعلى الرغم من ذلك، وبلا أي أمل مزيّف ولا انتظار حتى لبارقة حق تصيب ضميراً، أيّ ضمير، خطط، أو شارك، أو رقص لتلك المذبحة. لا يجد صانع المذبحة أنه ملك محبة الناس يوما، ولا استقرّ على ذلك الكرسي الذي كم حلم به وقد ارتبط حلمُه بالسيف والدماء بلا أدنى خجل.
تردّ الناس عليه، وقد تركت له الكرسي، بعمارة الأرض وبمواليد جديدة، وهذا يُحزنه ويخلق له غصّة، فكيف يستفرد بحكم كل تلك الملايين الجائعة.
إنّه الملك يجلب السعادة بالدم، ويخلق أيضا اليأس من طول الهروب إلى الأمام، الهروب حتى من مسؤولية رغيف العيش الحاف. "رابعة" فضّاحة للطامعين، وهذه من الأعاجيب. إنّها قبل ذكراها بأسبوع واحد فقط، يهرب رأس الحكم ورأس "مصاب الدم" من فارق سعر الرغيف الحاف فقط، فكم فيها من بركاتٍ للصابرين، وكم فيها من لعناتٍ على الطامعين.