رحيل أمير الظل
تنهدنا وسرحنا وغيّمت سحابة حزن وأسى على وجوهنا كثيرا، حين سمعنا عن خبر وفاة زوج بعد وفاة زوجته بأيام قليلة أو ساعات. وقد يحدث العكس، فتموت الزوجة بعد زوجها، وإن كانت الاحصائيات تشير إلى وفاة الأزواج غالبا بعد رحيل الزوجات بمدة قصيرة، فقد أشارت إلى هذا دراسة نشرت في دورية "جاما نت وورك أوبن". والسبب هو حالة الحزن الشديد لرحيل الشريك، وفقدان الرغبة في الحياة، خصوصا أن الزوجة قد ترحل وتترك الزوج وحيدا وسط انشغال الأبناء، فيما تكون الزوجة قادرة قليلا على إدارة حياتها بصفتها امرأة بعد رحيل الشريك، لكثرة اهتماماتها وعنايتها بالأحفاد، على عكس الرجل.
نقلت الأخبار، نهار يوم الجمعة الفائت، رحيل الأمير فيليب، زوج ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، عن عمر 99 عاما، قضى منها ما يقارب 73 عاما زوجا للملكة، كان خلالها يوصف بصخرتها الحنون. وقد استهجن كثيرون حزن الملكة على وفاة زوجها، ربما من باب أنه رجل الظل. ولكن يبدو أن أحدا لم يخبر مشاعر الأنثى التي مهما وصلت إلى مناصب عالية، وما تناله من شهادات وترقيات، إلا أنها تبقى أنثى، تركن في المساءات المتعبة لصدر زوج محبّ، فكيف لا تحزن على رحيله لمجرد أنها ملكة؟ أو كيف لا تحزن على رحيله لأنها ليست امرأة عادية، سوف تركض هنا وهناك، للحصول على معاش ضئيل، أو انتزاع ميراث متواضع من بين أنياب إخوته، أو تتنازع معهم على بيت قديم، وغير ذلك من القضايا التي تعيشها أي أرملةٍ بعد وفاة زوجها. وكأن الملكة، كما يعتقد كثيرون، لن تحزن على رحيل زوجها كما تفعل كل الزوجات بعد عشرة عمر طويلة، ولكنهم يغفلون عن كونها أنثى، وأن سريرا واحدا كان يجمعها بشريك الحياة، وأن أنفاسه بجوارها كانت تعني لها الكثير، حتى لو أصبحت متقطّعة ولاهثة، ولكنها تملأ فضاء غرفتها، وتشيع فيها طمأنينة أنثى أيضا، وليس طمأنينة ملكةٍ يقف على بابها أعتى رجال الأمن، ويأتمر بأمرها رجال سياسة محنّكون، وتدير مملكة بكلمة منها.
مؤكّد أن الملكة إليزابيث سوف تفتقد الأمير فيليب، وتتذكر هفواته التي تؤكد أن زواجهما كان عاديا مثل كل الزيجات، وحيث يتعمّد الزوج إحراج زوجته أمام الآخرين، وخصوصا عائلته، ليؤكد على شيء ما في نفسه، مثل أنه مسكين، حتى يقبل بزوجةٍ لا تليق به، أو أن عليه أن يحتمل هذه الخرقاء من أجل الصغار، فيوم تتويج الملكة لم يتردّد أن يسألها أمام الحاشية: من أين أتيت بهذه القبعة .. وحين سئل عن سر السعادة الزوجية كان ردّه: التسامح ولدى الملكة الكثير منه .. وقد أعلن أكثر من مرّة أن البريطانيات لا يُجدن الطبخ، ولذلك كان يمتلك مطبخا صغيرا ملحقا بجناحه، يقلي فيه البيض كل يوم. ولكنه ظل محافظا على حياته الزوجية/ ومكانته في حياة الملكة، حيث وصفته في تصريح نادر "قوتي ومتّكئي"، فيحقّ للملكة أن تبكيه، بعد أن يوارى في التراب بمرور أسبوع على وفاته. ويمكننا أن نرى دموعها الحقيقية الحارّة، والتي يتعجّلها المتتبعون لهذا الزواج الملكي، والذين سارعوا إلى نشر صورة ليست حقيقة لدموع الملكة، مشيرين إلى أنها دموعها على رحيل أميرها الغالي.
يمكن اختصار القول بأن رحيل شريك الحياة يؤثر على الشريك الآخر، بل إن رحيله بمثابة موت آخر له، حيث أثبتت الدراسات أيضا أن رحيل الشريك يتسبّب في ارتفاع مستويات بروتين "أميلويد بيتا" الذي يتراكم بدوره مكونًا لويحات الأميلويد بين خلايا مخّ الشريك الباقي، ما يؤثر سلبًا على القدرات المعرفية والإدراكية له. وهذا يعجل بإصابته بالزهايمر، حسب دراسة حديثة، نشرتها دورية "جاما نت وورك أوبن" أيضاً. والزهايمر هو موت على قيد الحياة. وكأنما اختاره الشريك لعدم قدرته على مواجهة الحياة، بعد رحيل الإنسان الذي كان يبصر الحياة معه.