روبير بادانتير... رمزٌ حقوقي أم خدعةٌ أخلاقية؟
"مات اليوم الرجل الذي سمح لكم في السجون بأن تشاهدوني الآن". ... هكذا أعلن مذيع إحدى محطات التلفزة الفرنسية خبر وفاة وزير العدل الفرنسي الأسبق، روبير بادانتير، في التاسع من فبراير/ شباط الجاري. وبعد إعلان هذا الغياب، ازدحمت وسائل الإعلام بأنواعها بمقالات وتحليلات وسيرٍ عن حياة هذا الرجل القانوني الكبير وأعماله وإنجازاته. وقد أعلنت مختلف القوى السياسية، ذات اليمين وذات اليسار، حزنها على الرجل ذي الرمزية الإنسانية والحقوقية والأخلاقية الكبيرة وتقديره له. وكُرِّم جثمان الراحل أمام مقرّ وزارة العدل في باريس بحضور رئيس الجمهورية وكل القيادات السياسية على مختلف مشاربها. وأخيراً، اقترح الرئيس الفرنسي، ماكرون، أن ينضم اسمه إلى قائمة الموجودين في "مقبرة العظماء" المخلَّدين الباريسية. فهل اختار المذيع الفرنسي أهم إنجازات بادانتير في إعلان رحيله؟
مؤكّدٌ أن المذيع أراد في اختيار الإشارة إلى هذا المُنجز الحقوقي الذي ارتبط فعلاً بعهده وزيراً، والذي يمكن اعتباره تفصيلاً، أن يدعو متابعيه، ولو من باب تحفيز الفضول، إلى أن يعرفوا حقيقة الإنجاز الأكبر لبادانتير وأهميته عندما كان وزيراً للعدل، المنصب الذي يُسمّى أيضاً في فرنسا حامي الأختام، بين عامي 1981 و1986، في ظل تولي الرئيس فرانسوا ميتران زمام الحكم في فرنسا بين 1981 و1995، فقد كان بادانتير، أحد أبناء ضحايا الهولوكوست، رفيق درب ميتران والمدافع عنه ضد من يتهمه بماضٍ معادٍ للسامية، هو الأب الشرعي والروحي للقانون الفرنسي بإلغاء عقوبة الإعدام من التشريعات الفرنسية. وهو القانون الذي ورد الوعد بإقراره في حملة ميتران الانتخابية بتأثير من بادانتير نفسه، وقد حصل ذلك. على الرغم من أن من النادر أن يفي المرشّحون عموماً بوعودهم الانتخابية عندما يوصلهم صندوق الاقتراع إلى المنصب. وقد شهدت قاعة المجلس النيابي في باريس خطاباً تاريخياً لبادانتير، يعرض من خلاله الأسباب الموجبة لهذا الإلغاء. وقد سجّل التاريخ ورود عباراتٍ ذات حمولة إنسانية رفيعة في خطابه هذا. وأُقرَّ القانون بتصويت الأغلبية البرلمانية التي كانت تنتمي إلى أحزاب اليسار، من اشتراكيين وشيوعيين، والتي ربحت الانتخابات بعد استمرار اليمين في الحكم عقوداً ثلاثة. وقد تابع "نضاله" الحقوقي والأخلاقي بعد خروجه من الحكومة، ساعياً لتوسيع رقعة الدول التي تلغي حكم الإعدام من تشريعاتها. وبهذا، صار رمزاً حقوقيّاً جاب اسمه أصقاع العمل الإنساني الكوني، فهل كان بادانتير متّسقاً أخلاقيّاً مع موقعه الحقوقي الدولي؟
الاتساق القيمي أساس تقييم الموقف الأخلاقي وقد عيبَ على بادانتير غيابه
من غير المؤكّد أن من اعترض سنة 1975، وكان محامياً ذا شهرة واسعة، على أيّ مسعى لوجوب تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 المتعلق بنتائج عدوان حزيران 1967، ومن كان يعتبر إسحاق رابين وشمعون بيريز رفيقي درب له هو حقوقي متخلّص من عقدة الانتماء الديني ومتبنٍّ قيماً إنسانية كونية. وعلى الرغم من إشارته إلى أن أمن دولة إسرائيل يعتمد جزئيّاً على تحرير الفلسطينيين، إلا أن ذكره حقّهم في تقرير مصيرهم لم يتجاوز العبارة المكرّرة غربياً والمفرغة من أيّ مضمون، والتي قال فيها إنه "سيأتي يوم نرى فيه تحقيق قرار الأمم المتحدة بإنشاء دولتين". وقد اقتصرت انتقاداته للحكومة الإسرائيلية على تعديلات بنيامين نتنياهو الدستورية الأخيرة. وتحت حجّة متخلّفة، لا تُبرّر لمن يدّعي حمل قيمٍ إنسانية وترويجها كونياً، فقد أوجز موقفه "الإنساني" من جرائم الاحتلال الإسرائيلي بالقول: "ولو أن أخي على خطأ، فإنه أخي". وفي نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2019، اعترض بادانتير على إمكانية فحص المحكمة الجنائية الدولية ملف الاتهام المقدّم من السلطة الوطنية الفلسطينية بحق إسرائيل ردّاً على اعتداءاتها على قطاع غزّة منذ يونيو/ حزيران 2014. وقد اعتبر فطحل القانون أن فلسطين ليست دولة، وبالتالي لا يحق لها أن تقدم شكوى بحق دولة. وغاب عنه أنه ولو كان مقعد فلسطين في الأمم المتحدة مراقب، إلا أنها حظيت باعتراف الدول الموقعة على ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية: وقد اعترفت بفلسطين 138 دولة بين عامي 1988 و2015، بينها دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن.
من جهة أخرى، يعتبر بادانتير الإسلام السياسي من أنواع معاداة السامية متخفّياً تحت ظلال معاداة الصهيونية، وهو يعيد تكرار أسطوانة مجموعات الضغط الإسرائيلية التي تسعى لتجريم من يعادون الصهيونية كعقيدة عنصرية إحلالية واستعمارية. وهو في هذا الموقف العقائدي يتكاتف مع زوجته، امرأة الأعمال، إليزابيت بادانتير، التي يقدّمها الإعلام الفرنسي فيلسوفة نسوية، فقد حصرت نضالها النسوي في السنوات الأخيرة بمواقف عدائية تجاه الحجاب، معمّمة حكم قيمة يعتبر من يرتديه خاضعاً ومجبراً، مساهمة بالتالي في تأجيج الرهاب من الإسلام. وقد رفضت حضور ممثلين عن حزب "فرنسا الأبية" لتكريم زوجها بعد رحيله، معتبرةً أن هذا الحزب، المساند للقضية الفلسطينية، معادٍ للسامية ويتزلّف للإسلام السياسي لجني أصوات المسلمين الفرنسيين.
الاتساق القيمي هو أساس تقييم الموقف الأخلاقي، وقد عيبَ على بادانتير غيابه.