روسيا ضحية وهم قوّتها
القوّة في بعض الأحيان وهم يصنعه فائض قوة أو نظرة الناس إليك، ما يدفعك إلى التراخي على قاعدة أن "القوّة تكمن في إشعار الآخر بالقوّة"، غير أن حقيقة القوّة لدى فردٍ أو جماعة لا يُمكن تلمّسها إلا بالاحتكاك مع طرفٍ يُعتقد أنه الأضعف في معادلة ثنائية. وحين تتعرّض لنكسةٍ يُصاب وهمك بالصدمة الممزوجة بالنكران، الذي يدفعك إلى محاولة إحداث تصوّر آخر واهم، أشهرها حين تعتبر أن عدوّك لا يقاتلك بمفرده، بل بجمعه كل أعدائك إلى صفّه، حينها يُمكن لوهمك منحك فرضية تُسرّك: "أنا لا أحارب عدوي، بل كل أعدائي، لذلك أُصبت بالنكسة، فيما لو قاتلته بمفرده لكنت انتهيت منه منذ زمن بعيد".
معادلة يرسيها الجيش الروسي ومخابراته وقيادته، مفادها أن "روسيا لا تحارب الجيش الأوكراني وحده، بل كل دول حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا مجتمعة". صحيحٌ أن "الأطلسي" يُغدق السلاح والدعم المخابراتي لأوكرانيا، ناهيك عن المساعدات المالية والإنسانية والاجتماعية، لكن هذا الواقع لا يمحي حقيقة أن الجنود الأوكرانيين هم من يقاتلون الروس. وصحيحٌ أن المرتزقة موجودون، غير أن وجودهم منتشرٌ على ضفتي القتال. البولنديون والجورجيون في معسكر كييف، ومقاتلون من جنسياتٍ مختلفة في صفوف "فاغنر" والجيش، لا يلغون وجود المرتزقة، الواقع الذي تهرب منه روسيا، أن جيشها تعرّض لصدمةٍ بعد تبيان حافز أوكراني على القتال.
في الواقع، ليس الروس وحدهم من ظنّ أنهم أقوياء ثم ضربتهم قوّتهم. تحدّث الإسرائيليون عن مقاتلين إيرانيين مع اللبنانيين والفلسطينيين، في لبنان وفي فلسطين، حين اهتزّت صورتهم "جيشا لا يُقهر". اعتبر السوريون أن الإسرائيليين كانوا يقاتلون في صفوف "القوات اللبنانية" خلال حرب لبنان (1975 ـ 1990). الأميركيون ذكروا أن السوفييت كانوا يحاربون في صفوف "الفييتكونغ" في فيتنام... الأمثلة كثيرة ومتحرّكة، لكن الثابت أن كل قوّة في العالم، منذ فجر التاريخ، تقع في الخطأ ذاته: تبرير قوّة الطرف الآخر بوجود قوى أخرى في صفوفه.
المشكلة هنا في فارق التعاطي مع كل حرب. اتّعظ الأميركيون، مثلاً، من حرب فيتنام، مدركين أن التركيز الدائم على كونهم "أقوى جيش في العالم" لا يطمس مشكلاتهم العسكرية. في الواقع، ربما قد يكونون وحدهم من انفردوا بدراسة وضع الجنود العائدين من فيتنام والعراق وأفغانستان، وسلوكهم في محيطهم الاجتماعي، وتدهور صحتهم النفسية، وانتحار بعضهم. أجروا دراساتٍ في ذلك، ونُشرت علناً. صنعوا أفلاماً عن ذلك، رغم تأثيرها الأقوى من الدراسات المكتوبة عالمياً، ولم يشعروا لحظةً بأن عليهم قمع كل فكرة مناقضة فكرة "أقوى جيش". ذلك كله، عن قصد أو من دونه، أدّى إلى وضع الجيش الأميركي قدميه على الأرض، وعدم التحليق في أوهام القوة اللامتناهية.
لماذا فعلوا ذلك؟ لأنه، وحتى إشعار آخر في عالم متنامٍ من الذكاء الاصطناعي، تبقى الطبيعة البشرية معياراً للسلوكات. وأي محاولةٍ لجعل الجيش الأميركي مثالياً ولا يُمسّ تُعدّ أول مسمارٍ في هزيمةٍ محتّمة. الجيش الروسي، ولأنه لا يملك ترف الوقت لدراسة هذه التحوّلات، سينتقل إلى مستوى أعلى من الوهم، وسيتعالى عن كل ما هو واقعي، قبل السقوط. ليس ضرورياً سقوطه من الخارج. التاريخ مهم هنا: روسيا لم تسقط مرّة واحدة في التاريخ الحديث من الخارج، بل سقطت من الداخل. ومحاولة الروس، قيادةً وجيشاً، تجاهل الصدمات والتمسك بالأوهام، ستؤدّي بهم إلى صدام داخلي، في تكرار لسقوط آل رومانوف والسوفييت.
أول من أمس الخميس، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمسك قلماً ويحرّكه كمن يشعر بالملل، في اجتماع عبر الفيديو مع مجلس الأمن القومي الروسي. لا يُظهر هذا التصرّف رجلاً قوياً ومسيطراً على الوضع، بل شخصاً ارتبط بالوهم في أدقّّ أيام روسيا الحديثة، منفصلاً عن واقع سيصدمه في مستقبلٍ لم يعد بعيداً.