رياض سلامة... لماذا الآن؟
من خارج التوقعات، جرى توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، احترازياً على ذمّة التحقيق، بعدما مثل أمام المدّعي العام التمييزي، القاضي جمال الحجار الذي استجوبه ثلاث ساعات، ثمّ أبلغه أنه موقوف إلى حين استكمال التحقيق معه.
لم تعرف أبعاد هذه الخطوة، إن كانت فتح ملفات أم تمهيداً لإغلاقها مع حاكم لبنان السابق، الذي شكل خلال السنوات الماضية مادة سياسية ومالية وقضائية دسمة منذ أن انطلقت انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019، وطالبت بإسقاطه مع المنظومة السياسية ومحاكتمهم بتهم الفساد والفشل السياسي في تدبير البلاد التي صارت بلا بوصلة سياسية وإدارية، إذ تسيّر الأحزاب السياسية (الوحيدة في العالم عائلية وطائفية) فقط مصالحها في الدفاع عن مشاريعها وثرواتها ومكتسباتها في نظام سياسي أقرب إلى النظام الإقطاعي منه إلى النظام الدستوري والديمقراطي، وما زالوا يحكمون البلاد على نحو سوريالي.
كمٌّ هائل من الانتقام من اللبنانيين والكيديّة السياسية التي يملأون بها الصحف والإعلام، ويدلون بآرائهم في الإصلاح، وحيث يتصدر رياض سلامة الأخبار، وهو يجلس على خزائن من أسرارٍ يحتفظ فيها لنفسه، ويتعاطى معها ببرودة مخيفة امتدت 30 عاماً من الهندسات المالية وعقودها وسلفاتها واعتماداتها وصفقاتها برؤوس كبيرة سياسية ومالية ومصرفية واقتصادية ووزارية ونيابية، وشملت أيضاً وجوهاً إعلامية وثقافية من المؤسّسات الخدماتية والتسويقية لمرشّح المصرف المركزي إلى رئاسة الجمهورية منذ العام 2006.
نظام سياسي أقرب إلى النظام الإقطاعي منه إلى النظام الدستوري والديمقراطي
أما لماذا رياض سلامة الآن، ولبنان يعيش على إيقاع سلسلة الضربات الجوية والصاروخية المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، ومع وصول الطرفين إلى درجة كارثية في صراعهما المفتوح منذ إعلان الحزب المدعوم من إيران فتح جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزّة. وتبدو مجريات المواجهات اليومية موجهة لتجنب حرب واسعة، ولكنها عمليات محفوفة بالمخاطر في ظروف البلد المتروك، والذي يتعاطى مع أسوأ الأمور العسكرية والسياسية والمالية.
ليس معروفاً ما إذا كان الهدف من توقيف رياض سلامة فتح ملفه كاملاً، وهذا يعني أن مرحلة من الضغوط الدولية قد بدأت على لبنان وعلى قرارات اتّخذها الحاكم، وكانت لها قوانين ومراسيم وموازنات حكومية مدروسة من لجان مالية متخصّصة، وأن ثمة إلحاحاً دولياً على محاربة الفساد والإصلاح، سيما مع صدور عقوبات أميركية وكندية وبريطانية وأوروبية على سلامة، وصدور مذكرات توقيف سويسرية وفرنسية ونمساوية بحقه وشقيقه رجا وسكرتيرته وزوجته الأوكرانية وغيرهم.
ويسبق التوقيف تهديد هيئة العمل الدولية (FATF) التي ستعقد اجتماعاً لها في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري يضع لبنان على اللائحة الرمادية لغسل الأموال ودعم الإرهاب وتمويله واستعمال النقدي (الكاش)، ويخشى أن سلامة متورّط في هندسات مالية ربطته مع الاقتصاد الموازي لحزب الله.
يأتي التوقيف مع إمداد كل من فرنسا وسويسرا وألمانيا والنمسا القضاء اللبناني بملفّات ومستندات تعزّز المحاكمة
منذ خروج رياض سلامة من موقعه حاكماً لمصرف لبنان المركزي، وخلال 14 شهراً، تموضعت المنظومة السياسية الحاكمة، واستقرّت أوضاعها، وأصبح في وسعها الدفاع عن المشتبه بهم من أفرادها لحماية نفسها، وزال خوفها من رأس جبل جليد الفساد الذي يمثله الحاكم السابق، فقد تكون قرّرت التجاوب مع الضغوط الخارجية والتضحية به، وبالمستندات والوثائق واللوائح التي يهدّد بها لدى شركات حفظ الداتا الخاصة في هولندا وغيرها (مسارعة رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ووزراء وأحزاب إلى بيانات الاحتكام إلى القانون)، من دون التطرّق إلى أسباب الكارثة، وكل طرف يحمّل المسؤولية للطرف الآخر. ويأتي التوقيف مع إمداد كل من فرنسا وسويسرا وألمانيا والنمسا القضاء اللبناني بملفّات ومستندات تعزّز المحاكمة، فيما أجريت تحقيقات داخل مصرف لبنان، وسلمت بيانات ومستندات إلى القضاء تدين رياض سلامة، على الرغم من تخاذل الحاكم بالتكليف وسيم منصوري عن اتخاذ صفة الادّعاء باسم المصرف لعدم الوصول إلى الادعاء على مجلس المصرف، حيث كان منصوري أحد أعضائه.
سينشغل لبنان في ملفٍّ على تماس مع ملف المودعين اللبنانيين، حيث تعمل حكومة تصريف الأعمال على شطب أموالهم من دفاترها المالية، وستكون مادة تجاذب سياسي وإعلامي وطائفي بين الجماعات اللبنانية المتنافرة، فيما ينزّل "الحاكم بأمره" سابقاً في سجن مديرية قوى الأمن الداخلي، المعروف بسجن الضباط الأربعة الذين اعتقلوا فيه على خلفية اغتيال رئيس الحكومة السابق، رفيق الحريري، وخرجوا منه أبرياء.
عادة ما تنتهي الأمور في لبنان إلى رواية غامضة، ويبقى المشهد غير مكتملٍ في انتظارات اللبنانين المقلقة الأوسع لوقف إطلاق نار في غزّة، ما من شأنه أن يفتح الطريق أمام تسوية تعيد رسم خرائط جديدة في الشرق الأوسط. هذا إذا كانت الجهات الخارجية تتحرّك فعلاً من أجل لبنان، والوفاء بوعودها (فرنسا والولايات المتحدة)، وآخر مثال في سبتمبر/ أيلول 2020، عندما جاء الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عقب انفجار مرفأ بيروت، ليشرح للبنانيين كيفية تغيير نظامهم، وأكّد أن فرنسا ستساعدهم. وعلى أساس أن منظومة سياسية مرتكبة الفساد لا تستطيع فرض سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية وتطبيق القرارات الأممية ذات صلة ببنود اتفاق الطائف، والتي تعنى بممارسة سيادتها وطيّ صفحة عقدين من المخالفات. وهذه مجرّد تأويلات بعيدة ولا يمكن التحقق منها.
سينشغل لبنان في ملف على تماس مع ملف المودعين اللبنانيين، إذ تعمل حكومة تصريف الأعمال على شطب أموالهم من دفاترها المالية
لذلك قد تكون خطوة توقيف سلامة ردّة فعل، مثل حفظ ماء الوجه للطبقة السياسية وبعض وجوهها الرئيسية، ومجرّد واحدةٍ من قصص ضرورة معاقبة بعض الفاسدين. وعلى الأرجح، وفق مصادر مستقلة، تبدي انزعاجها من خطوة القضاء اللبناني، ومن أنها "محاولة التفاف على القضاء الأوروبي وتوقيف التحقيقات التي وصلت إلى أسماء أخرى جديدة في ملفٍّ يتعلق بـ12 موازنة مالية، أنفقت من دون قطع في الحسابات، وتدقيق في وجهة صرف الأموال، ومن أن سلامة أجرى، تحت التهديد، صفقة بتوجيه سياسي ما تقاطع مع ذهابه منفرداً ليردّ على أسئلة المدّعي العام من دون محاميه، لينتهي الأمر به موقوفاً. وهذا أمر يثير شكوكاً كثيرة.
ليس واضحاً بعد ما إذا كان القضاء العدلي بمقدوره المضي بعيداً في حرب واسعة ضد الفساد. ومن شبه المؤكّد أنه يدرك حجم الانقسامات الطائفية والإرباكات المتعلقة بقضايا كثيرة تقسم اللبنانيين، مثل الحرب والكهرباء والجامعات والضرائب والاستيلاء الفئوي على المواقع الرسمية والأعداد السكانية... وتداعيات كثيرة يمكن أن تدفع الأمور خارج السيطرة.