ريان .. مأساة وعبرة

07 فبراير 2022
+ الخط -

حادثة ليست ككل الحوادث، ومأساة لا ككل المآسي، ومحنةٌ لا ككل المحن، تلك التي عاشها المغاربة، ومعهم الملايين من العرب والمسلمين وغيرهم، وهم يتابعون عملية إنقاذ الطفل ريان أورام الذي سقط في بئر عميقة ضيقة عمقها 32 متراً، ولا يتجاوز قطرها 30 سنتميتراً، في قرية نائية بمنطقة جبلية وعرة شماليّ المغرب، فقد كان من الممكن أن تمرّ الواقعة من دون أن يعار لها أي اهتمام، ولا يرِد لها بال، فليس بدعاً في هذه الدنيا أن يكون الأطفال الأبرياء ضحايا، وكم رأينا الموت يقتلهم في كل الدنيا عامة، وفي منطقتنا العربية خصوصاً، في فلسطين المحتلة، في سورية، في العراق، في اليمن، راحوا وذهبوا، وما زالت صور بعضهم عالقة في أذهاننا تذكّرنا بهم وبمآسيهم.
أُخرج الطفل ريان من البئر يوم السبت 5 فبراير/ شباط، بعد مجهود جبار بذله عمال وخبراء وتقنيون عديدون لأربعة أيام طويلة وعصيبة، حبس فيها الجميع أنفاسه والأمل يحدوهم بقرب الفرج، أضنت المتابعين وأهل الضحية وأقاربه، فضلاً عن والدته التي انفطر قلبها، وتفطّرت كبدها ألماً وحزناً على ما أصاب ابنها، وهلل الجميع فرحاً وابتهاجاً، لكن الفرحة لم تدم إلا دقائق معدودة، حيث أعلنت السلطات المغربية وفاة الطفل، في بيان للديوان الملكي المغربي، عزّى فيه الملك محمد السادس أهل الفقيد، وحلّت الصدمة مكان الفرحة، وتحولت دموع الفرح إلى دموع حزن. وبعد تبادل التهاني تبودلت التعازي، وانهمرت الأدمع على خدود الصحافيين الذين كانوا يتابعون الحدث، ولم يمتلكوا أنفسهم، مجهشين بالبكاء أمام الشاشات، وانقلب العرس إلى مأتم. تغيّر المشهد وصمت الجميع.

استطاع أن يجمع شمل ما فرّقته السياسة، ويجمع ما فرّقته النعرات، حيث أوجد تضامناً منقطع النظير

ذهب ريان، بعد أن حرّك المشاعر وأحيا القلوب وجمع الناس حوله، فقد تحوّلت حادثته، رحمه الله، إلى قضية إنسانية، تبنّاها كل الطيبين في أرض الله الواسعة. أقيمت الصلوات في المساجد والكنائس، ورفعت الأيادي إلى الله طالبة متضرّعة، وتجمهر الناس حول مكان الحادث يصلون ويدعون، وهاكم بعض مشاهد مؤثّرة: رأينا طفلاً يافعاً يبكي، ويقول إنه جاء من بلدته شفشاون لإنقاذ ريان، يقال له إن هذا خطر على حياتك، فيرد محتجاً وقائلاً إن الموت قد يباغته في أي مكان إذا جاء أجله، مطالباً بالسماح له بالنزول إلى قعر البئر قبل فوات الأوان. رأينا شاباً مراهقاً يتطوّع ويحاول فريق الإنقاذ إنزاله من دون جدوى. رأينا العم علي الصحراوي، المختص في حفر الآبار يأتي من جنوب المغرب، متطوعاً مساهماً في عملية الإنقاذ. رأينا نسوة من القرية يُحضرن الأكل ويوزّعنه مجاناً. رأينا رجالاً آخرين قدموا من كل مناطق المغرب لتقديم العون والمساعدة. رأينا عمّالاً رابطوا واستمرّوا في عملية الحفر ليل نهار لا ينقطعون إلا من التعب. رأينا مهندسين وخبراء يتفننون في اقتراح أجدى الحلول التي تمكّن من الوصول إلى الطفل من دون المخاطرة بحياته. رأينا أطفالاً من مخيمات في غزة وسورية ولبنان يحملون لافتات التضامن، وما أحوجهم هم للتضامن وبعضهم يموت من الصقيع. خلاصة القول، رأينا تضامناً واسعاً حرّك وجدان الشعراء، فكتبوا شعراً، وحرّك قلوب الأتقياء، فتضرّعوا دعاءً، وحرّك أفئدة الأمهات، فبكين تعاطفاً وحناناً، رأينا قضية إنسانية أبرزت معادن نفيسة.

لم يعد ريان ابن أبويه فقط، ولا ابن المغرب فحسب، أصبح ابن كل العرب من المحيط إلى الخليج

في مقابل هذه الومضات المضيئة والأخلاق النبيلة المليئة بالمشاعر الفياضة، رأينا تصرّفات غير إنسانية مشينة من أشخاص فرّطت أنانيتهم في إنسانيتهم، فلم يبق منهم إلا الحضيض. رأينا أناساً جاؤوا رغبةً في زيادة عدد متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي. رأينا صحافيين يكذبون ويروّجون أخباراً كاذبة عنوة لا خطأً، بغية نيل السبق الصحافي، رأينا بعضهم يسأل الأم بماذا تشعر وابنها بين الحياة والموت. رأينا صوراً وفيديوهات لا تحترم خصوصية الأطفال، فضلاً عن الكاذبة منها. رأينا من لم يرُقه هذا التضامن الواسع الكبير. رأينا واقعاً مريراً لأناسٍ يعيشون على هامش المجتمع. رأينا حكومة لم تكلف نفسها عناء التنقل إلى عين المكان، ولا لباقة كتابة كلمات طيبة على موقعها، في وقتٍ تصدّر فيه وسم ريان كل المواقع. سمعنا تصريحات نصر وانتصار قبل ربح الرهان، لكن الرهان فشل، فقد كان للقدر رأي آخر.
لكن، مع كل عسر يسر، ومع كل واقعة عبرة، وفي كل محنة منحة، ومع كل حادثة لطفٌ من الله، وألطف ما في هذه الواقعة المؤسفة حجم التعاطف والتضامن العربي الذي أوجده الحادث المؤسف، فقد استطاع أن يجمع شمل ما فرّقته السياسة، ويجمع ما فرّقته النعرات، حيث أوجد تضامناً منقطع النظير، وحملةَ مساندةٍ غيرَ مسبوقة، ومتابعةً شعبية ورسمية تجاوزت كل الحدود، فالطفل ريان لم يعد ابن أبويه فقط، ولا ابن المغرب فحسب، أصبح ابن كل العرب من المحيط إلى الخليج. رحل وتركهم متضامنين في شأنه، فهل سيتسع هذا التضامن، أم أنه سينطوي ويرحل، كما رحل ريان؟

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط