زلزال سورية وما بعده: ماذا بقي؟
لعلّ الجملة التي نُقلت على لسان أحد الشباب الناجين من الزلزال في إدلب تعكس الواقع المرير الذي وصل إليه الشعب السوري، بعد عقد من القتل والذبح والتنكيل والتهجير القسري، حتى يأتي لاحقاً الزلزال، ليُكمل ما قامت به الحرب الداخلية اللاإنسانية. لخّص الشاب الذي فقد أهله جميعاً الحكايةً كاملةً بقوله: "كلهم بخير، إلّا أنا". تؤشّر جملته هذه بالفعل إلى ما وصلت إليه الأحوال والأوضاع اللاإنسانية في سورية، مع تباطؤ المنظّمات الدولية وتخاذلها وصيحاتها غير المجدية بضرورة تسهيل (وتسريع) وصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي السورية، سواء التي تقع تحت سيطرة النظام السوري أو التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة، بما فيها هيئة تحرير الشام في إدلب.
لا يوجد أسوأ وضعاً مما وصل إليه الشعب السوري اليوم؛ فهو بين نظامٍ دمويٍّ إجرامي قام بتجريف السكان قسراً إلى محافظات أخرى، وجماعات متشدّدة ومتطرّفة تربط سلوكها ومصالحها وتغير خطابها بما يتناسب مع موازين القوى في المنطقة، أو تنظيم دموي عدمي مثل داعش. وإذا كان لا يجوز التفريق بين الناس في المصائب والزلازل، ومصابنا، إنسانياً وإسلامياً، واحد في ما وقع لكلٍّ من الأتراك والسوريين، لكنّ التداعيات والنتائج ليست بالدرجة نفسها؛ فمن تقف وراءه دولةٌ تواسيه وتحميه وتخفّف عنه أعباء الكارثة لاحقاً، ليس كمن تقف دولته ضده وتطرُده وتطارده، ويموت بالزلازل غريب الديار مهجّراً في تركيا أو نازحاً إلى الشمال السوري.
موعظة الزلزال ليست هنا بالمعنى الملتبس الذي ذهب إليه اتجاه وعظي ديني، خالطاً ما بين الأبعاد الإنسانية والعلمية من جهة والدعوية من جهة أخرى والفقهية من جهة ثالثة (بالمناسبة، كتب معتز الخطيب مقالاً جميلاً بذلك الخصوص، بعنوان "هل وقوع الزلازل عقوبة على ذنوب سابقة؟" في موقع "الجزيرة نت") إنّما التذكرة والعبرة هنا هي للإنسانية جمعاء؛ وللشعوب والحكومات العربية والمسلمة، بأن يلتفتوا إلى حجم المعاناة التي يعيش فيها السوريون اليوم.
بين الدياسبورا والدستوبيا ... هذه هي حال السوريين اليوم، وإذا كان ثمّة شيء من المفترض أن يفعله الزلزال، فهو أن يوقظ القلوب والضمائر النائمة والمتحجّرة. وهو أيضاً زلزالٌ يذكّرنا، عربياً، بأنّنا منذ الربيع العربي ونحن مرتهنون بين أنظمة استبدادية قمعية فاشية وأمراء حروبٍ وعصاباتٍ ومعارضاتٍ فاشلة، وسط انهياراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأخلاقية. وإذا كان السوريون قد ذاقوا سمّ هذه الوصفات الكارثية من السياسيين العرب، بشتى ألوانهم وأطيافهم، فإنّ مصير عدة مجتمعات عربية هو أحد هذين الخيارين: الدياسبورا أو الديستوبيا، إن لم تكن هنالك استراتيجيات ومسارات بديلة تبحث عنها النخب المثقفة العربية!
العنوان الأول المفترض أن نخرج به من الأزمات الراهنة يتألف من كلمتين: الإنسان أولاً، ما يعني أنّ حقوق الإنسان الإنسانية والأساسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية مقدّمة على كلّ الخلافات السياسية والأيديولوجية والأجندات الإقليمية والدولية.
العنوان الثاني: أهمية الدولة، وليس السلطة، بالمعنى الدستوري والقانوني والسياسي، فما نراه اليوم في العالم العربي هو انهيار في الدولة نفسها ووجودها، والمواطنة بصفتها القيمة الرئيسية في العلاقة بين الفرد والسلطة، فأيّاً كانت الخلافات والاختلافات والنزاعات، من المفترض أن يحافظ الجميع على الدولة بوصفها حاضنة للتيارات والمواطنين والقوى السياسية والمجتمعية، ومتى انتهت الدولة أو تفككت أو ضعفت، أدّى ذلك إلى فقدان الحماية والأمن بصورة جذرية!
المثقفون والمفكّرون والمجتمع المدني العربي يقفون اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة مع هذا الزلزال. وكما قيل، سابقاً، إذا شعرت أنك قد تهت في التفاصيل فعد إلى القواعد الأساسية. واليوم المطلوب هو التأكيد على إنسانية الإنسان العربي، وعلى وجود الدولة والعمل على تطويرها وتعزيزها وتجذير قيمها الرئيسية، وفي مقدمة هذه القيم المواطنة وسيادة القانون. وبعد ذلك، فلنختلف كما نشاء، فإذا فقد الإنسان الأمن والحماية والطمأنينة، أصبح في مهبّ الريح، كما يحدُث اليوم للشعوب العربية!