زمن الشرّ
اكتُشف مصادفةً، في عام 2010، فيروس كمبيوتر يستهدف المنشآت النووية الإيرانية. سنواتٍ، انتشرت روايات عدّة عن كيفية عمل الدودة الخبيثة ووصولها إلى أكثر كنوز طهران أهمّية. كشفت تقارير إعلامية، في يناير/ كانون الثاني من هذا العام (2024)، دور مهندس هولندي تعاون مع الولايات المتّحدة وإسرائيل في توصيل الفيروس إلى منشأة نطنز. كان هذا الهجوم سبباً في تغيير اعتماد إيران على قطع غيار مُصنَّعة في الخارج لمنشآتها النووية.
يبدو ما ارتكبته إسرائيل في لبنان، يومي 17 و18 سبتمبر/ أيلول الجاري قادماً من العالم ذاته، العالم الذي أنذرك أنّه قادر على الوصول إليك بأيّ منتج تشتريه مهما كان بريئاً. هل يختلف ذلك كلّه عن حملة إرسال البطاطين الموبوءة بفيروس الجدري إلى السكّان الأصليين في أميركا عام 1763؟... ليس مهماً، في تقدير كاتب هذه السطور، مناقشة مدى الدقّة الجراحية للعملية، وأنّ لها أضراراً جانبية. لو لم تقتل العملية أربعة أطفال كما فعلت، ولم تصب أيّ أبرياء كما فعلت، وبمعجزة استهدفت أعضاء حزب الله فقط، فستظّل جريمةً، لكنّ عقوداً طويلةً من جرائم الاغتيال جعلتنا نطبّع معها، حتّى بات الاغتيال الكلاسيكي مقبولاً، ويستنكر الناس وسائل الاغتيال الجديدة من باب البدعة (!).
ما ارتكبته إسرائيل في لبنان جريمة من دون محاولة تقريبها للعقل الغربي بأمثلة من شاكلة "ماذا لو كان أحد الأجهزة على طائرة غربية؟"، فالغرب جرّب وسائلَ مشابهةً، حتّى لو أدانها فإنّه سيتفهّما. هذه الجريمة لم تستهدف أعضاء حزب الله وحدهم، لكنّها استهدفت جميع من تعتبرهم إسرائيل أعداء، وربّما حتّى الأصدقاء. تأتي هذه الجريمة مُحفِّزةً لتاريخ طويل من نظريات المؤامرة، ومن العداء للعالم والدعوة للانعزال. وهو أمر ترّحب به إسرائيل كثيراً. بل يبدو أنّها تسعى إليه، لذلك ستحاول ألّا يُؤدّي ذلك إلى تطوّر محلّي، بل إلى عزلة كاملة.
عقوداً، ظلّت إسرائيل مُدلَّلة العالم الغربي مهما ارتكبت من أفعال، حتّى إذا أغضبته، فإنه يُفضّلها على الضحايا العرب. لكن يبدو أنّها بدأت تفقد هذه الميزة، أو ربّما وثقت فيها بأكثر ممّا يجب. لذلك، سيسرّها أن يُؤمِن العرب كلّهم أن لا مكان لهم في عالم يسوده الغرب، وأنّهم مستهدفون مطاردون، حتّى بأجهزة الاتصال التي يحملونها في أيديهم. كلّ شيء يصنعه الغرب ويصدّره يمكن أن يتحوّل سلاحاً. هذا الذعر لن يمرَّ، حتّى لو انتهت الحرب بعد هذه الجريمة، سيتذكّر مئات الملايين ما حدث، وستنشط نظريات المؤامرة عن لقاحات الأوبئة والتطعيمات ومنتجات الحضارة كلّها. فلم يعد هناك شيء آمن.
أن تشعرَ بالرعب من الموقد البريء في مطبخ منزلك لأنّه مستورد، هذا أمر تحبّه إسرائيل، وستجتهد في أن تجعلكَ تستخدم النار بدل صناعة موقد محلّي حديث. ليس النصر بالرعب وحده ما تجنيه، بل ربّما مزيداً من العزلة لنا. ففي دول ومجتمعات لديها تاريخ من الشكّ في جدوى العلوم الحديثة والمنتجات الحضرية، وتشعر دائماً بأنّها مقيّدة بعالم حديث صاخب يبعدها عن واقعها المحلّي... في عالم كهذا يمكن بسهولة الترويج للعزلة والانكفاء. في حلّ حاسم لجدل الحداثة والمحلّية، والعولمة والهُويَّة، وهو حلّ سيُسعد قطاعات كثيرة، تبدأ من حكومات دول ولا تنتهي عند رجال الدين ومروّجي العلوم الزائفة ونظريات المؤامرة، مروراً طبعاً بكثير من القوميين. كثيرون في هذه القطاعات يعتبرون الحداثةَ مؤامرةً، والتطوّرَ العلمي رفاهيّةً غير ضرورية.
حتّى لو لم تصل الأمور إلى هذه الدرجة، وستصل إليها بعد وقت، فإنّ إحساس العزلة سيتعمّق لدى العرب كلّهم. الإحساس بأنّهم في عالم لا يحترمهم وفق شروطه، ويعجزون عن فرض شروطهم عليه. هذا عالم، حتّى لو احتضنتَه، فسيكون بينكَ وبينه ألف ألف فرسخ في داخلك. وهي عزلة تسعد بها إسرائيل بلا شكّ.
لقد حرص الكيان الصهيوني أن يوصل إلى الجميع رسالةً واضحةً في شبكة اتصالات حزب الله، للأعداء وللأصدقاء، من يقفون ضدّ إسرائيل ومن يُطبِّعون معها. وصلت إلى الجميع رسالة تقول: هذا زمن الشرّ. في هذا الزمن، يمكن أن يُصبِح كلّ شيء سلاحاً، ويمكن أن يُستخدم ضدّك أيّ شيء. أنت لست في أمان.