سمير غانم الذي رحل
"ما هذا الغباء؟" هكذا قد ينعتك بعضهم، فالموت يحيق بك فعلياً من كلّ جانب، وأنت تحزن على خبر وفاة شخص من بعيد، شخص لم تلتقِ به ولو مرّة، ولا تعرف عن شخصيته الحقيقية شيئاً، وكلّ ما تعرفه أنّه ممثل من طراز خاص، انتزع ضحكاتك انتزاعاً من قلبك، وكان بسيطاً إلى درجة أنّك قد حاولت مراراً أن تسأله، وهو على الشاشة أمامك: هل أنت ممثل فعلاً؟
الحياة حولك تدور، ولا يمكن أن تتوقف، لأنّك تعيش أجواء حرب في بلدك. ولذلك لم تتوقف أخبار الموت والولادة، وكنت ساذجاً، يا صديق، ذات يوم، حين توفيت أمك، هل تذكر يوم وقفت في الشرفة، وصرخت أنّ على السيارات أن تتوقف، ولا تمضي على الخط السريع بهذا الإصرار، لكنّ شيئاً لم يحدُث، وحملوا أمك، وهي أعزّ من تملك في الحياة إلى مأواها الأخير، واستمرت تلك السيارات اللعينة تنهب الرصيف بصريرها المجنون.
قرأتَ أنت، إذاً، خبر وفاة سمير غانم، الذي كنت تعرف من قبل أنّه يصارع إصابته بفيروس كورونا قبل ثلاثة أسابيع مضت. وقد وضعتَ يدكَ على قلبك، حين علمت بخبر إصابته بهذا الفيروس، نظراً إلى تقدّمه في السن، وإنْ لم يكن يبدو عليه، في أعماله الأخيرة، أنّه قد تجاوز الثمانين، خصوصاً أنّه كان يحرص على وضع الباروكة على الدوام، وقد نال منه الصلع في سنٍّ مبكّرة. ولولا الباروكة التي يقال إنّها تُصنع خصيصاً له لما أصبح نجماً. لكنّ الحقيقة أنّه كان يُضحككَ في أفلام الأبيض والأسود مع فرقته الصغيرة الشهيرة "ثلاثي أضواء المسرح" وكان وقتها فاقداً شعره من مقدمته، وعلى الرغم من ذلك يكفي أن تسمع صوته وطريقة أدائه، من دون أن ترى وجهه أو تعابيره، لكي تضحك.
في ركن قصي، تحاول أن يكون بعيداً عن صوت القصف الدائر حولك، تسند رأسك على كفيك وتتذكّر ما قرأته يوماً في مجلة محلية فنية، يبدو أنّها كانت من المجلات التي تعتاش على الفضائح وتلفيق الأكاذيب، قرأت فيها أنّ هناك من خرج ليعلن أنّ سمير غانم الممثل الشهير فلسطيني الجنسية، وينحدر من غزة، وقد تاه من أسرته على الحدود وتبنته عائلة في مصر وأصبح نجماً مشهوراً.
تذكّرت هذه الكذبة التي أطلقها شخصٌ ما، وساق "أدلة" عليها، ولم يتوانَ مصوّر المجلة عن التقاط صورة لهذا الشخص البائس رزي الهيئة، وهو يحمل صورة للممثل الشهير، مدعياً أنّه شقيقه. وفي اليوم التالي، حين كنتُ بين زميلاتي في المدرسة، كنّ جميعهن يشعرن بسعادة، لأنّ الممثل الضاحك ينحدر من غزّة.
ذلك الارتباط التاريخي بين مصر وفلسطين، خصوصاً غزّة، التي تعتبر نقطة اتصال قارتي آسيا وأفريقيا، أنتج علاقات كثيرة مشتركة على مرّ التاريخ. ولا عجب أنّ ثلة من نجوم مصر تنحدر أصولهم من فلسطين، وهناك أسماء تردد أنّها من أصول غزّية تحديداً، وإن يجمل ذلك الخطأ أو الصواب فذلك يعني أمراً مهماً، أنّ قطاع غزّة ارتبط سنوات طويلة بمصر، وخضعت غزّة للإدارة المصرية فعلياً سنوات عدة.
تستوقفك في سيرة سمير غانم علاقته بزوجته الجميلة دلال عبد العزيز، ولدلال من اسمها نصيب، فأنت تلمح كل الدلال الطيب في ملامحها. وحيث لا تزال تخضع لعلاج مكثف من فيروس كورونا، ولم يبلغها بعد خبر وفاة شريك حياتها، وتخشى عليها ابنتاها من وقع الصدمة. والحقيقة أنّها ربما كانت تشعر، فهذا القرب بين الأحبّة لن يخلو من مشاعر صادقة ممتدّة، وربما شعرت وهي تصارع المرض بأنّه قد رحل، وقد فاتتها جنازته ولحظات وداعه، وهي التي لم تكن تفوّت جنازة أيّ راحل من الوسط الفني. وهكذا أنتَ تتوقف لتقول: يا للطف الله.