شريهان والعودة البارعة
بعد غياب أكثر من 25 عاماً عن خشبة المسرح، تخللتها أحداث كبرى في حياتها، سواء تعرّضها لحادث سير أدّى إلى كسر ظهرها، ما أقعدها شبه مشلولة في الفراش سنوات طويلة، ثم صراعها المرير مع مرض السرطان في الفكّ، وكاد يقضي عليها، تعود الفنانة المصرية شريهان في مسرحية استعراضية بإمكانات إنتاجية ضخمة، تأليف مدحت العدل وإخراج هادي الباجوري. يتناول النص سيرة حياة كوكو شانيل، مصمّمة الأزياء الفرنسية الشهيرة والملهمة الكبيرة في عالم الأزياء، والتي بدأت حياتها معدمةً مشرّدةً يتيمة، تعلّمت الحياكة في الملجأ. وبفضل موهبتها الكبيرة وشغفها وإيمانها بنفسها، تمكّنت من تخليد اسمها في التراث الإبداعي الإنساني من أكثر الشخصيات تأثيرا في القرن العشرين.
كانت قصة شانيل اختياراً في منتهى الذكاء، وضربة معلم من القائمين على العرض الاستثنائي المدهش، الحافل بالجماليات، سواء لجهة المتعة البصرية التي حققتها السينوغرافيا البديعة، وقد استحضرت روح باريس الثلاثينيات بتفاصيلها الصغيرة، كذلك الموسيقى الساحرة المصاحبة للعرض، ومجموعة الرقصات المصمّمة بإتقان كبير، كي تعبّر عن الحدث. أدّتها شريهان مع فريق من الراقصات والراقصين بمهارة نادرة الحدوث.
حازت المسرحية التي اعتمدت على أداء الجسد بالدرجة الأولى إعجاب الجمهور، ووصفها نقاد كثيرون بأنّها عرضٌ مختلف، لم يحدث في تاريخ المسرح الاستعراضي. والحق أنّ العرض مطابقٌ لمواصفات العروض المسرحية العالمية، لناحية الفخامة والإبهار. بلغت مدة المسرحية ساعتين، تنصلت فيها شريهان من ذاتها، خلعتها جانباً، وتقمّصت بشكل أخّاذ روح كوكو شانيل، تلبّستها مثل جنيةٍ ذابت فيها تماماً، وتماهت مع الشخصية في لحظات فرحها العابرة، وفي عذاباتها وخيباتها الكثيرة وصعودها سلّم المجد، وخذلانها في الحبّ الذي جرح قلبها مراراً.
كانت البداية الذكية لمفتتح المسرحية لافتة في المشهد الأول، حين تقترح الجدّة على حفيدتها أن تروي لها قصة ما قبل النوم. تعبّر الصغيرة عن سأمها من قصص الأميرة النائمة وسندريلا، وترفض ذلك النوع التقليدي الخامل من القصص، حيث الأميرة جميلة ومستلبة، وخلاصها لا يأتي إلّا من خلال الرجل المنقذ، لتشرع الجدّة في رواية قصة كوكو شانيل، المرأة القوية التي صنعت مجدها بالكدّ والكفاح والعناد والطموح والصبر. وعلى الرغم من أنّ الكاتب أوضح أنّ النص ليس نقلاً حرفياً عن مادة علمية وثائقية، فقد لامس بأمانة المفاصل الرئيسية من حياة كوكو شانيل، واستثمرها في إثراء العرض المسرحي الذي جاء متكاملاً ومقنعاً وممتعاً.
فرح الجمهور واشتعل المسرح بالتصفيق، حين أطلت شريهان، الخمسينية الجميلة، الهشّة والصلبة في آن، بكامل بهائها، مخلصة لماضيها الفني المتنوع الذي أمتعنا في زمن جميل، من خلال الفوازير، وفي مسرحية "سك على بناتك" مع الراحل فؤاد المهندس، حين كانت في قمة حيويتها وشبابها وشقاوتها. كما أبهرتنا وانتزعت الاعتراف بمكانتها ممثلة من وزن ثقيل في أفلام جادّة ملتزمة، مثل "الطوق والإسوارة" و"عرق البلح". وقد خلّف اختفاؤها القسري عن المشهد الدرامي الألم والحسرة في نفوس محبيها، قبل أن تنبثق كعنقاء عصية على الاحتراق من جديد، في هذا العرض المدهش، ولتجدّد إيماننا بسخاء الحياة التي لا تكفّ عن مباغتتنا بلحظات الفرح والأمل واليقين، لنرى بأم العين أنّ شريهان ظلت ممسكةً بخيوط لعبة الحياة، على الرغم من كلّ ما مرّ بها من أهوال، ولكي نجدّد الإيمان بأثر الفن، باعتباره الترياق والعزاء والخلاص.
مسرحية "كوكو شانيل" نقطة مضيئة في المسرح العربي. وفي كلمة مرتجلة، خاطبت شريهان جمهورها، وهي تداري دموعها التي غلبتها، قالت فيها: "سلام على الطيبين الذين كلما اهتزّ جدار روحي أسندوه. لم أختر طريق الألم الذي وجدت نفسي فيه، لكنّي رضيت وارتضيت وصبرت ونلت، بفضل محبتكم ودعمكم".
من هنا، لا يمكن النظر إلى عودة شريهان القوية إلّا باعتبارها بارقة أمل بأنّ القادم أجمل، إذا ما توفرت الإرادة والعزيمة والقدرة على الصمود، مهما اسودّت الأيام.