25 اغسطس 2024
صبيحة الانقلاب التركي
في وقت متأخر من ليل 15 - 16 يوليو/ تموز 2016، وصلنا، الصديق جبر الشوفي وأنا، إلى الفندق الذي ينزل به جبر في منطقة (Esenler)، فطالعتنا المعاملُ والمؤسسات الصناعية والتجارية الكبيرة، والبنايات البرجية العالية، وتذكرتُ ما حكاه لي أحد الأصدقاء الأتراك من أن هذه المنطقة في الثمانينيات لم يكن فيها حجرٌ على حجر، وكانت موحشةً ومخيفة، وأن الفضل فيها يعود إلى الإصلاحيين الذين كان يقودهم رئيس الوزراء، تورغوت أوزال، في أوائل التسعينيات، إذ فتحوا الباب أمام الاستثمارات الوطنية في هذه المنطقة.
دخلنا الغرفة، وكلانا متلهف لأمرين، أولهما وضع الهاتف الجوال في الشاحن، وإعطاء خبر سريع لأهلنا اللائبين علينا بأننا بخير، وأننا صرنا في الفندق. والثاني فَتْح التلفزيون ومتابعة أخبار الانقلاب الذي يسمّى باللغة التركية ضربة (Darbe)، وله اسم قديم هو (Inkilab). كانت الأخبار، بالنسبة إلينا، مضطربة، فبعضهم كان يكتب على "السوشيال ميديا" إن الانقلاب نجح، وآخرون يقولون إنه فشل، ثم نفد شحن الموبايل، وما عدنا نعرف شيئاً، ولكنني انتبهت، خلال قدومنا في التكسي، أن السائق يفتح جوّاله على بث حي للرئيس أردوغان، يحث فيه المواطنين على الخروج والاحتجاج لإفشال الانقلاب، وكان الناس قد بدأوا بالخروج غريزياً، حتى قبل هذا.
بقينا نقلب محطات التلافيز العربية والتركية، ونتابع الأخبار حتى تأكدنا من فشل الانقلاب في الصباح الباكر، ولم يكن أحدُنا قادرا على النوم (على الرغم من سن الكهولة)، لأسبابٍ كثيرة، أستطيع الآن تفسيرها ربما بشكلٍ أكثر وضوحاً، أولُها أن تركيا التي نعيش فيها منذ سنواتٍ، بلادٌ تشهد نهضة اجتماعية وسياسية وتجارية وصناعية وعمرانية جيدة. والانقلابات، بشكل عام، تؤدي إلى قطع سياق التطور، وأحياناً تلعبُ دوراً تخريبياً. وثانيها أن البلاد التي فيها تداول سلمي للسلطة، ومؤسسات ديمقراطية، وتحتكم إلى صناديق الاقتراع، يُرْعِبُها حكم العسكر، والأتراك، تحديداً، عاشوا سنوات بؤس ورعب في أيام الانقلابات العسكرية السابقة. وثالثها أننا، نحن السوريين المنكوبين بنظام حافظ الأسد البراميلي، نخاف أن يقف الانقلابيون الذين لم يكن أحدٌ يعرف مَنْ هُمْ بدقة، ضد قضيتنا، أو ضد وجودنا المؤقت على أرضهم، وإن مَن يعرف أن عددنا (البالغ 2.6 مليون) يقترب من عدد سكان دولةٍ صغيرة، سيدرك حجم الكارثة التي ستحصل لنا فيما لو نجح الانقلاب، وكان الانقلابيون ضد وجودنا.
خرجتُ من الفندق في حدود العاشرة صباحاً. كان الوضع طبيعياً، ويستحيل أن يقول من يعبر هذا الشارع لأول وهلة إن هذا شارعٌ في مدينةٍ كان فيها ليلة البارحة انقلابٌ عسكري. كانت مكونات الدولة القوية، بل الجبارة، كلها تعمل، فبسهولةٍ عثرتُ على تكسي، وطلبتُ من سائقها أن يوصلني إلى أقرب محطة "متروبوس". وفي منطقة (Zetınbornu) وجدتُ باصات النقل العام تعمل كسابق عهدها، وحركة سير الشارع طبيعية.
كانت الانقلابات السورية (والعراقية) التي نعرفها تقوم على عنصر واحد تقريباً: "منع التجول". ما حصل في تركيا، صبيحة الانقلاب يمكن أن نسميه "الحض على التجول"! ذلك أن كل وسائط النقل العام أصبحت تنقل المواطنين (مجاناً)، وحتى إشعار آخر. المترو، والترامواي اللذان كانا يتوقفان في العادة عن العمل بعد منتصف الليل بقليل، صارا يعملان أربعا وعشرين ساعة. الصيف في إسطنبول، بطبيعة الحال، فصل سهر ومرح وانعتاق. أما في هذه السنة، فقد ازداد الصيف متعةً وبهاءً، إذ أضيفت عليه احتفالية مستمرة، قوامها تجمع الناس في الساحات التي تتصدّرها الشاشات الكبيرة التي تبث صوراً قادمة من مختلف المحافظات للشعب التركي، وهو يحمل أعلام الوطن، ويهزج بأغاني النصر، وكان ثمّة أكشاك تُقدم وجباتٍ (مجانية) سريعة للمواطنين المحتفلين.
باختصار شديد: في سورية، كنا نرى الجماهير المسكينة تمشي ضمن المسيرات التي أطلقنا عليها اسم "المُسَيَّرات".. وهنا، رأينا الجماهير قد خرجت لتدافع عن حريتها ونظامها الديمقراطي، بقرارٍ منها.
دخلنا الغرفة، وكلانا متلهف لأمرين، أولهما وضع الهاتف الجوال في الشاحن، وإعطاء خبر سريع لأهلنا اللائبين علينا بأننا بخير، وأننا صرنا في الفندق. والثاني فَتْح التلفزيون ومتابعة أخبار الانقلاب الذي يسمّى باللغة التركية ضربة (Darbe)، وله اسم قديم هو (Inkilab). كانت الأخبار، بالنسبة إلينا، مضطربة، فبعضهم كان يكتب على "السوشيال ميديا" إن الانقلاب نجح، وآخرون يقولون إنه فشل، ثم نفد شحن الموبايل، وما عدنا نعرف شيئاً، ولكنني انتبهت، خلال قدومنا في التكسي، أن السائق يفتح جوّاله على بث حي للرئيس أردوغان، يحث فيه المواطنين على الخروج والاحتجاج لإفشال الانقلاب، وكان الناس قد بدأوا بالخروج غريزياً، حتى قبل هذا.
بقينا نقلب محطات التلافيز العربية والتركية، ونتابع الأخبار حتى تأكدنا من فشل الانقلاب في الصباح الباكر، ولم يكن أحدُنا قادرا على النوم (على الرغم من سن الكهولة)، لأسبابٍ كثيرة، أستطيع الآن تفسيرها ربما بشكلٍ أكثر وضوحاً، أولُها أن تركيا التي نعيش فيها منذ سنواتٍ، بلادٌ تشهد نهضة اجتماعية وسياسية وتجارية وصناعية وعمرانية جيدة. والانقلابات، بشكل عام، تؤدي إلى قطع سياق التطور، وأحياناً تلعبُ دوراً تخريبياً. وثانيها أن البلاد التي فيها تداول سلمي للسلطة، ومؤسسات ديمقراطية، وتحتكم إلى صناديق الاقتراع، يُرْعِبُها حكم العسكر، والأتراك، تحديداً، عاشوا سنوات بؤس ورعب في أيام الانقلابات العسكرية السابقة. وثالثها أننا، نحن السوريين المنكوبين بنظام حافظ الأسد البراميلي، نخاف أن يقف الانقلابيون الذين لم يكن أحدٌ يعرف مَنْ هُمْ بدقة، ضد قضيتنا، أو ضد وجودنا المؤقت على أرضهم، وإن مَن يعرف أن عددنا (البالغ 2.6 مليون) يقترب من عدد سكان دولةٍ صغيرة، سيدرك حجم الكارثة التي ستحصل لنا فيما لو نجح الانقلاب، وكان الانقلابيون ضد وجودنا.
خرجتُ من الفندق في حدود العاشرة صباحاً. كان الوضع طبيعياً، ويستحيل أن يقول من يعبر هذا الشارع لأول وهلة إن هذا شارعٌ في مدينةٍ كان فيها ليلة البارحة انقلابٌ عسكري. كانت مكونات الدولة القوية، بل الجبارة، كلها تعمل، فبسهولةٍ عثرتُ على تكسي، وطلبتُ من سائقها أن يوصلني إلى أقرب محطة "متروبوس". وفي منطقة (Zetınbornu) وجدتُ باصات النقل العام تعمل كسابق عهدها، وحركة سير الشارع طبيعية.
كانت الانقلابات السورية (والعراقية) التي نعرفها تقوم على عنصر واحد تقريباً: "منع التجول". ما حصل في تركيا، صبيحة الانقلاب يمكن أن نسميه "الحض على التجول"! ذلك أن كل وسائط النقل العام أصبحت تنقل المواطنين (مجاناً)، وحتى إشعار آخر. المترو، والترامواي اللذان كانا يتوقفان في العادة عن العمل بعد منتصف الليل بقليل، صارا يعملان أربعا وعشرين ساعة. الصيف في إسطنبول، بطبيعة الحال، فصل سهر ومرح وانعتاق. أما في هذه السنة، فقد ازداد الصيف متعةً وبهاءً، إذ أضيفت عليه احتفالية مستمرة، قوامها تجمع الناس في الساحات التي تتصدّرها الشاشات الكبيرة التي تبث صوراً قادمة من مختلف المحافظات للشعب التركي، وهو يحمل أعلام الوطن، ويهزج بأغاني النصر، وكان ثمّة أكشاك تُقدم وجباتٍ (مجانية) سريعة للمواطنين المحتفلين.
باختصار شديد: في سورية، كنا نرى الجماهير المسكينة تمشي ضمن المسيرات التي أطلقنا عليها اسم "المُسَيَّرات".. وهنا، رأينا الجماهير قد خرجت لتدافع عن حريتها ونظامها الديمقراطي، بقرارٍ منها.