صلعة العدالة الدولية تحت الشّعر المستعار
علت الهلاهيل والزغاريد، ليس في وسائل التواصل وحسب، وإنما في حناجر ضيوف البرامج الإخبارية أيضاً، مع أن القضيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والتي تتهمها بالإبادة (أي إبادة هي جماعية، يا سعادة البيه) وما زال منظوراً فيها، وقد يطول أمرُها إلى موسم التين والعنب والمنّ والسلوى، فعدد ضحايا الحرب كل يوم يتجاوز 300، وتقضي إسرائيل حاجتها في غزّة، وترفض حكمها لأن المحكمة معادية للساميّة، ومحالفة "لمحور الشرّ".
وجدتُ مشاهير ونجوما نهتدي بهم في ظلمات في البرّ والبحر ووسائل التواصل الطامسة، يشيدون بآخر دولة نالت حرّيتها وهي جنوب أفريقيا، وفرح أحدهم لكونه من مصر التي تنتسب إلى القارّة الأفريقية، ووجدت تحليليْن طريفيْن من محلّلَين سياسيين معروفين، زعم الأول أنَّ حكّام العالم يعدّون مسرحية، ويصدّرون بطلاً هو جنوب أفريقيا، وزعم الثاني إنَّ إسرائيل هي التي طلبت من جنوب أفريقيا رفع دعوى ضدها حتى تجد لها مخرجاً من غزّة، فتذكّرتهما في قول الشاعر المتنبّي في وصف الأسد: "في وَحدَةِ الرُهبانِ إِلّا أَنَّه/ لا يَعرِفُ التَحريمَ والتحليلا".
أقدّر التحليلات الغريبة والشاذة، وأتتبعها، فإن لم ننتفع بلحمها، دبغنا جلدها واستفدنا منه لبرد الشتاء وعزل الجدران وصنع الخيام في زمن النزوح والهجرة. لقد نسي الرجل أن الحياة تدافع مصالح، وأن الأمعاء تتصارع في المعدة في حربٍ باردة، وفي الأمر بطولة، وقد خلا الميدان من الأبطال، فاهتبلت جنوب أفريقيا الفرصة لتتصدّر الأخبار حتى رفرف علمها في عواصم العالم، ثم إن تاريخها مع إسرائيل تاريخ نفور و"فشخاء"، فقد كانت إسرائيل تناصر النظام العنصري الأبيض، وإنَّ صداقة رئيس جنوب أفريقيا ورمزها نيلسون مانديلا لياسر عرفات قديمة، فالآلام تجمع، والدول مثل الطيور على أشكالها، وكانت إسرائيل تبيع السلاح لنظام جنوب أفريقيا العنصري، ليس للزينة كما في بلادنا، والدنيا مدافعة ومغالبة. أما لماذا سكتت دولٌ عربية عن الشكوى للمحاكم الدولية، فالسبب أن حال الحاكم العربي هو الحلم والتغافل، فتسعة أعشار العقل في التغافل، والتي يعبر عنها بالقول الشعبي "اعمل نفسك ميّت". والدولة العربية التي كان يمكن لها أن تشكو إسرائيل للمحكمة الدولية "بعبرة وتحمحم"، هي تونس، لولا أن رئيسها الفصيح، ذا العقل الرجيح، يخشى من أن يعتبر ذلك اعترافا بها!
وبعد هذه الديباجة نأتي إلى تقسيم الدجاجة، أنَّ العدل في الأرض على قول جبران: يُبكي الجنّ لَو سَمِعوا/ بِهِ وَيستَضحكُ الأَموات لَو نَظَروا. ... لكن الغربيين أذكياء، وقد سادوا في القرنين الأخيرين، حتى أنهم حوّلوا العدل إلى مسرحٍ وعرض، وحضارة الغرب بصرية، أما وقد تردّت سمعة العدالة والقوانين الدولية تردّياً شديداً "بالسيوف الحديدية"، فلم تجد القوى التي تحكُم العالم مفرّاً من قبول الدعوى، والنظر فيها.
أما ترى، عزيزي القارئ، القضاة، وهم يرتدون تلك العباءات السوداء، ويضعون تلك الباروكات، وهو تقليد بريطاني تنوي الحكومة البريطانية التخفّف منه لغلاء باروكة الشعر المستعار، فالقضاء معصوب العينين ومستعار الشعر. وقيل إنَّ السبب في ارتدائه هو صلَع ملوك فرنسا قديما، وقيل لصُنع الهيبة وادّعاء الحكمة، وقيل إن السبب انتشار مرض الزهري الجنسي قديما في فرنسا، الذي حلق شعر الرجل في القرن السابع عشر.
العدلُ مكلف في الغرب، وطويلُ الإجراءات، مثل المسلسلات المكسيكية، فالحياة محاكمات، وفي السينما أفلام محاكماتٍ أشهرها "أميستاد"، و"اثنا عشر رجلاً غاضبا". والشي بالشيء يُذكر، فقضاء في العالم العربي روماني شامخ، طويل الإجراءات إلا في السياسة وحكم المعارضين فهو سريع، ومطلق الأحكام، ما إن يسمع القاضي اسم المتهم حتى يحكم عليه، أما في قضيتنا في محكمة العدل، فإن الحكم غالباً سيكون بفارق صوت واحد، ويخشى أن يتمنّع الخامس عشر عن التصويت، فالقضاء شامخ في الغرب عندما يتعلق الأمر بالمصالح القومية، وإن حكمت المحكمة حضورياً بالعدل، فستطالب إسرائيل بوقف إطلاق النار، لا بإعادة الأرض إلى أصحابها، أو تعويض الضحايا، وفتح المعبر، ووقف إطلاق النار، وإن حصل فخيرٌ وإحسانٌ، وإنقاذٌ لسمعة المؤسّسات الدولية الصلعاء التي تضرّرت كثيراً، والله المستعان.