صيف الحرائق والتغيّر المناخي والأخطار
يقترب العالم شيئا فشيئا من نقطة تحوّل في المناخ، حيث يؤدّي ارتفاع درجات الحرارة إلى تغيّراتٍ لا رجعة فيها. لم تعد تُجدي التحذيرات من السيناريوهات الكارثية التي تجعل الاقتصاد العالمي يدفع ثمنا باهظا. يدرك كل سكان الأرض المسارالموجع لظاهرة التغيّر المناخي وارتفاع درجات الحرارة، وفشل الأداء العالمي بتخفيض الانبعاثات الكربونية. تجتاح الحرائق العنيفة مئات آلاف الهكتارات، والرياح التي تنقل الغازات والدخان تتسبّب في إجلاء عشرات الآلاف من السكان، إلى الأطفال والمرضى وكبار السن، الذين يعانون من ضيق التنفّس ونوبات الهلع.
كيف يمكن التأقلم مع حرارةٍ تفوق الأربعين درجة؟ إنه صيف الأخطار جمعاء والحرّ الشديد، ومقاومة الحرائق قضية الجميع. الإجراءات المتخذة بعد كل التحذيرات من الظاهرة العالمية ليست على المستوى السياسي أو العمل العالمي المنسق والمطلوب لتجنّب نتائج كارثية. الأمر اللافت كسر سجلات درجات الحرارة وارتفاعها وحجمها في الأشهر المقبلة، وبهامش كبير، يضاف إليها ذوبان الجليد البحري في القطب الجنوبي، الذي بلغ أقصى مستوى له من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران الماضي)، منذ بدأت عملية المراقبة عبر الأقمار الصناعية.
ارتفاع درجات الحرارة الذي يشهده جنوب أوروبا والشرق الأوسط والولايات المتحدة والصين وعدة بلدان وراء العديد من حرائق الصيف وموجات من النزوح والهجرة. تحوّل الطقس ظاهرة عالمية تشغل دوائر الأرصاد الجوية، ورواد المخيمات والمنتجعات السياحية أكثر من أي وقت مضى، مع درجات تتجاوز 40 درجة مئوية في أجزاء كبيرة من البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا وأوروبا (أعلى درجات تشهدها القارّة)، وآسيا (سجلت حرارة قياسية بلغت 52,5 مئوية)، والولايات المتحدة (43,4 مئوية). لا تُظهر موجات الحرارة تهدئة في الحرائق والجفاف والفيضانات، ومرشّحة للتكرار في أمكنة أخرى، وأشدّ تدميرا نتيجة تخلّف الدول عن القيام بدورها للحدّ من الأضرار الكبرى، ما يستدعي من قادة العالم اتخاذ إجراءات للحدّ من الاحتباس الحراري وفقا لاتفاقية باريس 2015.
ينبغي الاعتراف بـ"حقوق الطبيعة"، فالبشرية تنتج طاقة، وتستغل موارد الأرض أكثر من إمكاناتها، ما يعني أنها تصنع نهاياتها
تقدّر مراكز أبحاث ومؤسّسات مالية عديدة أن يتكبّد الاقتصاد العالمي نحو 23 تريليون دولار بحلول 2050 جرّاء الاحتباس الحراري، وسيؤدّي ذلك إلى تدهور المحاصيل الزراعية وارتفاع أكثر لأسعار الغذاء، وموجات من ملايين اللاجئين. لم تحدّد القمم المناخية المتعدّدة اتجاهات الطوارئ، فالتغيّرات المناخية من طبيعة معقدة وغير مؤكّدة. لم تؤدّ قمة باريس أخيرا إلى إحداث نقلة نوعية في علاقات الجنوب مع الشمال، وإرساء ميثاق مالي عالمي جديد، وإيجاد حلول لمشكلة التمويل المناخي. وضعت القمّة الأساس لمناقشات أكثر تفصيلا بشأن رفع المخصّصات المالية لدول الجنوب من خلال شراكات مع المؤسسات الدولية، والتركيز على توجيه الرساميل إلى المشاريع الخضراء في قمّة المناخ المقرر انعقادها في الإمارات الخريف المقبل. ستسعى الإمارات إلى تحديد رؤية لقمّة الأمم المتحدة، والتعهد الخاص بانبعاثات الغازات البتروستاتية، في وقتٍ يجتمع وزراء مجموعة العشرين لمناقشة خريطة طريق لمؤتمر كوب 28.
وقد تعهدت الدول البترولية بتخفيض الانبعاثات بنسبة 19% عن مستويات 2019، و40% بحلول العام 2030. تبرز أكثر الحاجة إلى رؤية استراتيجية من أجل تجديد الحوار، والحدّ من تداعيات التغيّر المناخي، إزاء صعوبة ضخّ مزيد من الأموال إلى البلدان التي تواجه صعوباتٍ ومشكلاتٍ اقتصادية واجتماعية كبيرة. يُجمع معظم المحلّلين على أن الرأسمالية هي المتسبب الأول في تلك المشكلات، وأنها البوّابة لحلٍّ كفيل بإنهاء الأخطار. ويجري الحديث عن أن التقدّم التكنولوجي السريع والذكاء الصناعي ممكن أن يساعدا في حل المشكلة.
لم تحقّق كل القمم التشاورية المرجوّ منها لإعادة توظيف النظام المالي العالمي في خدمة المناخ. أشار خبراء في الأمم المتحدة إلى أن حاجة هذه الدول تفوق ألف مليار دولار سنويا، ما عزّز السؤال عن مدى استطاعة الدول الكبرى أن تحل مشكلة التمويل، وتحقيق ذلك في ظلّ الأزمات التي تضرب اقتصادياتها بعد الأزمة الصحّية العالمية والغزو الروسي على أوكرانيا. التعهد البالغ مائة مليار دولار أقل بكثير من الاحتياجات الفعلية للدول الفقيرة، وأصبح رمزا لإخفاق الدول الغنية في تقديم التعهدات المالية. وتسبّب عدم الالتزام في عدم ثقة في مفاوضات المناخ الأوسع. لم يتردّد أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في التنديد بـ "فشل الهيكلية المالية الدولية"، وبالقواعد التي تتحكّم بأداء المؤسّسات المالية الدولية وهندساتها المالية غير العادلة، "أصبحت غير أخلاقية تماما"، مذكّرا بمقترحه توفير 500 مليار دولار سنويا للتنمية المستدامة، ومحاربة التحوّلات المناخية.
يدفع المناخ الدول الغنية والفقيرة والقطاعين العام والخاص إلى تسريع العمل في إطار "العدالة المناخية الآن"
تضاف مخاطر تغيّرات المناخ إلى سلسلة الأزمات المتعدّدة والمتداخلة مع فرضيات تحقيق نجاحات جزئية، مع الحاجة الفعلية لإعادة تخصيص 40% من حقوق السحب من صندوق النقد الدولي لصالح أفقر البلدان، وعن فرض ضريبة دولية على المعاملات المالية وتذاكر الطائرات والنقل البحري (إيمانويل ماكرون). تبقى الأمور رهينة بعض الحقائق الصادمة، ومنها اعتبار المناخ قبل الإنسان والحذر من تداعيات استمرار التغيّر المناخي. تأثير ارتفاع درجات الحرارة مكلف للغاية على بنى تحتية منجزة منذ عقدين، ما عادت تتوافق معها، الطرق والأسطح والمباني الزجاجية والجدران الخرسانية، وأنظمة السكك الحديدية، والواجهات أو المباني المكشوفة، وأنظمة المكيفات.
ستكون أعمال الإصلاح والصيانة مكلفة وصعبة جدا، وستواجه الشركات مشكلات هندسية كثيرة، وكل شيء ملموس من مخاطر الأعمال على المعادن والخرسانة والمواد المحتدمة، وعلى الشركات بناء أفضل ما عندها استجابة لأنظمة الحرارة المتطرّفة، والأكثر كفاءة في استخدام الطاقة. بلغت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن استهلاك الطاقة الأحفورية من غاز ونفط وفحم مستواها القياسي العام الماضي، ما يعني أن فرصة تجنّب حصول احترار خلال العشر سنوات المقبلة تراجعت إلى النصف (تقرير غلوبال كربون بروجيكت). فيما تجاوز عدد سكّان العالم عتبة الثمانية مليارات نسمة، ما يعني أن نظام الحياة والاستهلاك سيكون أكثر تأثرا بـ"العبودية الأحفورية" (ميخائيل لوي). يحوز الموضوع المناخي الأهمية القصوى على خلفية تقارير توجّه إنذارا شديد اللهجة (حرائق الأمازون وكندا وفرنسا واليونان وإسبانيا والجزائر وكرواتيا)، وبأن الأرض تسير نحو طريق اللاعودة، حيث يؤثر المناخ على المحاصيل وإدارة موارد المياه، فيتصدّرالمناخ مقدّمة الأولويات الجيوسياسية والاقتصادية، ويدفع الدول الغنية والفقيرة والقطاعين العام والخاص إلى تسريع العمل في إطار "العدالة المناخية الآن". لكن ليس كل العالم على هذه الدرجة من الخوف، مثل الملياردير في فيلم "لا تنظر إلى السماء".
المسألة أبعد من تقريب التباينات الاجتماعية ومن قضية التمويل المنفرد للخسائر (المناخ السياسي). تتعلق المسألة بالأكلاف المناخية المالية للقرنين المقبلين، واستثمارات بتريليونات الدولارات في الطاقة البديلة، على أهمية تأمين المساواة بين 85% من الدول المتطورة والصين، وبين 5% من باقي العالم. ينبغي الاعتراف بـ "حقوق الطبيعة"، فالبشرية تنتج طاقة، وتستغل موارد الأرض أكثر من إمكاناتها، ما يعني أنها تصنع نهاياتها.