طبق من الحساء
سوف يختلف الأمر كثيرًا، لو أخبرتَ صديقَك أنك قد اكتفيتَ بطبقٍ من الحساء على مائدة غدائك، بدلًا من أن تُخبره أنك قد تناولتَ أكلة العدس الشعبية، المشهورة في بلادنا العربية، والتي تعتمدها الأمَّهات وجبة رئيسية، في الأيام الماطرة والباردة. في حين أنها تدلُّ على بخل رَبِّ البيت غالبًا، في حال كانت الوجبة الرئيسية، أكثر من يوم في الأسبوع. وقد تدلُّ على ضيق حاله أيضًا، في حال كانت الطبق الرئيسي، كلَّ يوم، وعلى مدار الشهر. وفيما أنت لا تجرؤ، بالطبع، أن تصرّح بأنك تتناول طبقًا من الحساء، فهناك في بقعةٍ ما، وليس بعيدًا عنك، من يعتبر الحساء وجبة جانبية، أو نوعًا من المقبِّلات. أما أنت، فلو سمعتْكَ أمُّك تصرخ مطالبًا بالوجبة الرئيسية، بعد أن تتناول أكلتها الشهيرة المعتمَدة، في مثل هذه الأيام، فسوف تقتلع حنجرتك بأظافرها، من دون تردُّد.
مرَّت بي سنوات طويلة، وأنا أهوى قراءة الروايات البوليسية والرومانسية المترجمة التي تباع على الأرصفة. وفي أكثر من مرَّة، كنت أقرأ أن البطل الخارق قد التهم طبقًا من الحساء، على عجل، فيما تناولت البطلة الحالمة المكسورة الفؤاد طبقًا من الحساء، على مهل، ولم تشعر بطعمه، وهي تنظر نحو الأفق البعيد، وتطلق الزفرات الحارَّة من صدرها، مستذكرةً خداع الحبيب، وغدره. وكنت أحلم بالطبع بطبق من الحساء، يوضع أمامي، وأتركه؛ حتى يبرد، وأنا سارحةٌ مع فارس مجهول، حتى جاء يوم شتوي، وأصبحتْ أكلة العدس الشتوية أمامنا، مع كلِّ توابعها، من المخلَّلات وحبَّات الليمون، وأقماع البصل الأخضر، فقال أبي موجِّهًا حديثه إليّ: هذا هو أحد أنواع الحساء، ولكننا نهينه، فنضع فيه فُتات الخبز، ويتحوَّل إلى هذه الأكلة التي تسدُّ جوعنا، حتى صباح اليوم التالي. ونطَق لي لفظ كلمة حساء بالإنكليزية، فابتسمتُ، في حياء، وكأنه كان يقرأ أفكاري، وهكذا كان الاكتشاف الأوَّلي لديَّ؛ بأنَّ التعبير والوصف يفرق كثيرًا في الترويج، وهذه الطريقة التي يتَّبعها مروِّجو البضائع، والتي تلقى إقبالًا؛ تبعًا لطريقتهم في الترويج، وليس حسب جودة البضاعة. ولذلك، التهافت على الشراء، عبر الإنترنت، مثلًا، يزداد بسبب الدعاية التي تثير الخيال، وتصدمك النتيجة الحقيقية، حين تصل إليك البضاعة إلى باب بيتك. ونادرًا ما يتطابق الوصف مع الحقيقة. ولكنك، في الحالتين، ابتلعتَ الطُّعْم، وطارت دراهمك من جيبك.
قبل يومين، تبادلتُ مع ابنتي ضحكاتٍ ساخرة أمام التلفاز، حين هلَّلت البطلة الحسناء، فرحًا، وزوجها الوسيم الثريُّ يضع أمامها طبقًا صغيرًا، من حساء العدس، فيما تتساقط قطرات المطر على النافذة المجاورة. وقد استطاع هذا الطبق أن يقرِّب بين الزوجين المتخاصمين، فهي قد سعدت جدًّا بشعور زوجها بتعبها، وإعداده لها بعد عودتها من العمل، وقد خرجا إلى عملهما، بعد خصامٍ بائن، في الصباح، وتخيَّلتُ مشهدًا آخر لفتاة فقيرة، منكوشة الشعر، تجلس إلى طاولة قصيرة الأرجل "طَبْلِيَّة"، مع عائلتها، وتتذمَّر من أن طبق العائلة الرئيسي، كلَّ يوم، هو شوربة العدس التي تتسابق لها الأيدي الكثيرة. وتنهض؛ لتنظر من نافذة البيت المتهالك نحو الأفق، وتراقب قطرات المطر في الخارج، وتحلم بفارسٍ يأتي على حصانٍ أبيض، ينتزعها من هذا المكان، ويأخذها إلى بيت فخم، تلتهم على مائدته الثريَّة ما لذَّ وطاب من الطعام، ولكن لم يدُرْ بخيالها أنَّ الطبق الأوَّل الذي قد يقدَّم لها، على سبيل المقبِّلات، قد يكون "طبقًا من حساء العدس، أو الخضار".
العدس، هو بالفعل، وجبة شتوية محبوبة، مرتبطة بالأجواء الباردة؛ لأنه يبثُّ الدفء في الأوصال، ولا يتحدَّث عنه أحد، في الصيف، سوى الفقراء، غالبًا، الذين لا يتغيَّر طبقهم الرئيسي، طوال العام، ويدخل العدس ذو الأصول الفرعونية، حيث كان يقدَّم طعاما لبُناة الأهرام، من العمَّال والفنيِّين، في أكلات أخرى، غير الحساء، مثل أن يطبخ مع الأرز، أو بعض الخضار، ولكنه، في النهاية، يكون محبوبًا ومكروهًا، وضيفًا وزائرًا، وتلك سُنَّة الحياة.