طبق من الكشري
سلسلة محلات شهيرة بتقديم طبق الكشري الشعبي، في قلب القاهرة، ويتهافت الناس ويتفاخرون على الشراء منها، والظفر بطبقٍ من إحداها يعتبر انجازا بسبب التزاحم الشديد في معظم أوقات النهار أو الليل. وعلى الرغم من أن الطبق الشعبي الشهير المحبّب لكل طبقات الناس كان سابقا يُباع على عربة متنقلة، واعتقد أنه كان يمتلك مذاقا خاصا، إلا أن تحولا ذوقيا واقتصاديا قد حدث لوجبة الكشري التي ارتبطت بالفقراء، فيما تعتبر وجبة عابرة يحصل عليها أحد الأثرياء، ويطلب من صحبته أن يلتقطوا له بعض الصور وهو يلتهمها. فبسبب الكثافة السكانية العالية في مصر، وتدني المستوى المعيشي للفرد، كانت تلك الوجبة، ومن دون اختيار من الفقير، وجبة غذائية متكاملة غنية بالسعرات الحرارية المشبعة وبالعناصر الغذائية التي تقوّي الجسم وتغذّيه بأقل تكلفة، حيث إن قوام عناصره هو العدس والأرز، ويوما بعد يوم، وحسب رأيي، أصبح وجبة لطبقة واسعة من الشعب الذي يزداد عدُده، وينخفض مستوى دخله، وقد قيل سابقا عن العدس إنه لحم الفقير. ولذلك، الإقبال على طبق الكشري لم ينقطع منذ دخل مصر، بل وانتقل إلى معظم الدول العربية المجاورة وبمسمّيات مختلفة.
وبالمناسبة، لا يعدّ طبق الكشري أكلةً مصرية بامتياز، فأصوله تعود إلى الحرب العالمية الأولى، عند مجيء الهنود مع القوات البريطانية إلى مصر عام 1914، وكانوا يطلقون عليه حينها "كوتشري"، وقد ذكره ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" عندما وصف الهند، فقال "يطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كشري وعليه يفطرون في كل يوم"، وعندما وصل إلى مصر، تم وضع الإضافات المميزة له مثل الصلصة الحارّة.
في حادثة غريبة، تعرّض أحد عمال النظافة لمعاملة سيئة من إدارة أحد محال بيع الكشري الشهيرة، وكان من الممكن، بالطبع، أن يمر الموقف من دون أن يلتفت إليه أحد، لولا أن كاميرات رواد المطاعم والمارّة كانت بالمرصاد، وحيث لم يعد يشغل هؤلاء سوى التصوير والتقاط اللقطات ومقاطع الفيديو النادرة والطريفة، حتى لو كان في بعضها تعدّيا على الخصوصية، ولذلك، فقد أصبح عامل النظافة الذي أسيئت معاملته حديث الشارع المصري (والعربي أيضا) وفي غمضة عين.
لم يقف الأمر على استهجان ما تعرّض له العامل البسيط، وخروجه مستنكرا هذه المعاملة، ولكن تسارع المشاهير والأثرياء بالإعلان عن تقديم وجبات مجانية ودعوات مفتوحة وهدايا ثمينة لهذا العامل في حال العثور عليه، وقد التُقطت له صور مع ممثل شهير، وهو يدعوه إلى مائدته الفخمة العامرة، ما يدفعك إلى التساؤل: أين هؤلاء الأثرياء والمشاهير من أمثال هذا العامل، ولماذا لا يلتقطون أمثاله من الشوارع، ويضعونهم في سياراتهم الفارهة، ويصحبونهم إلى سهراتهم، أو في إحدى سفرياتهم، من دون ضجيج؟
تستغرب أكثر أن هذه الحادثة قد أخذت كل هذا الدويّ الإعلامي، وأصبح القذف بسلسلة محلات شهيرة للكشري "ترينداً" وسط دعوات إلى مقاطعته ثأرا لهذا العامل الذي لم أرتح، بالمناسبة، لحديثه ولغة جسده، وهو يبالغ في شرح ما تعرّض له من إهانة، وكان من الممكن أن ينتهي الأمر باعتذار مدير المحال مثلا، نيابة عن موظفيه، لولا وجود تقنية التصوير بالبثّ المباشر، التي ضخّمت الحادثة، رغم أن هناك حوادث تشهير مشابهة، واتضح فيما بعد أنها ملفقة، وبالفعل خرج من يشكّك برواية عامل النظافة، ولكن صوت التشكيك لم يُسمع؛ فالجماهير اعتادت أن تمشي خلف الصوت العالي والرنّان.
يجعلك كل ما حدث ناقما على التكنولوجيا، وفي الوقت نفسه، تتذكّر حكاية طريفة لمسكين رثّ الثياب، طُرد من باب أحد الأثرياء، وكانت هناك وليمة في الداخل، فعاد ثانية بثياب نظيفة، وتفوح منها رائحة الثراء، وربما يكون قد اقترضها، فسمح له بالدخول، فما كان منه إلا أن غمس طرف كمّ قميصه في الطعام، لأن الأولى أن يأكل قبل فمه.