طب وشعوذة وكوميديا في "بالطو"
في إطار كوميدي نظيف، تابعت عشر حلقات من مسلسل بعنوان "بالطو"، فوجدت نفسي مع بشائر العودة إلى كوميديا الموقف، وكذلك تناول ظواهر اجتماعية مقلقة بطريقة غير مبتذلة أو مقحمة. وبالتالي، أنت حين تقرّر متابعة الحلقات الخفيفة للمسلسل الذي أدّى بطولته ممثل شابّ، ما زال يضع قدمه على أول طريق الشهرة، فأنت تكتشف أن البطولة الفردية يجري توزيعها أيضاً على باقي الممثلين، ليتحوّل كلّ ممثلٍ، حتى الكومبارس، إلى بطلٍ أول.
لفتني في أحداث القصة المأخوذة عن رواية "بالطو وفانلة وتاب" لكاتبها الشاب أحمد عاطف فياض (طبيب)، ما أشار إليه أنّ الأحداث مستوحاة من تجربة له، فأحداثها تتناول ما مرّ بطبيب حديث التخرّج، يجري تفريغه لقضاء سنتي الامتياز في وحدة صحية بإحدى القرى، ثم يجد نفسه فجأة أصبح مديراً للوحدة ومسؤولاً فيها رغم صغر سنه وقلة خبرته. وتتطوّر الأحداث بعد ذلك، لتكشف لنا عن تمدّد الاعتقاد بالشعوذة عند الناس البسطاء، وبأنّ كلّ قرية يجب أن يكون فيها رجل "مبروك" أي يتبارك به الفقراء، ويعتقدون قدرته على الشفاء. ويقع الطبيب الشاب في صراع مع هذا المشعوذ، وهو نصّاب له معاونون. ومع هذا الصراع، تكتشف أنّ القضية ليست في الأرياف، فلا البقعة المكانية هي السبب، ولا الجهل هو السبب في وجود مثل "الشيخ مرزوق"، لأنّنا نُفاجَأ كلّ يوم بأسماء لامعة لمدّعي الطبّ والعلاج بالأعشاب والطاقة، ممن يرتدون البذلات الأنيقة وربطات العنق.
انتشرت في السنوات الأخيرة، وبمساعدة "السوشيال ميديا" ظاهرة دجّالي الطب، والذين أصبحوا خطراً على صحة الإنسان من الدجّال المشعوذ الذي يعشش في القرى والمناطق المهمّشة، يرتدي الجلباب الواسع، وينثر البخور، ويتمتم بكلمات مبهمة، ويعلّق في عنقه مسابح وتعويذات مرعبة، مثل سن الفيل وحدوة الحصان. لكن دجّالي الطب حديثي الظهور والانتشار، والذين يلهث خلفهم مثقفون وناس من علية القوم، أصبحت لهم سطوتهم، بسبب قدراتهم الفظيعة والمرتّبة والمدروسة على الإقناع، واللعب بالمصطلحات الطبية وجريان المفردات الأجنبية على ألسنتهم، ودسّ السم في العسل، خصوصاً حين يطرح أحدهم علاجاتٍ غريبة لأمراض مستعصية ومنتشرة، ويعاني منها الناس في مرحلة معينة من العمر، مثل آلام العظام والعمود الفقري.
وفي المسلسل أيضاً، أنت تلتقي بمعنى الخذلان الحقيقي، وهذا الخذلان الذي يأتي من أقرب الناس إليك، وممن تعتقد أنهم يساندونك في مهمتك العظيمة، فالطبيب الشاب (عاطف) كان يعتقد أنّ الممرضة (حلمية) إحدى أذرعه الأساسية في الوحدة الصحية، لكنّه يكتشف، مع نهاية الأحداث، أنّها متواطئة بكل إخلاص مع المشعوذ (الشيخ مرزوق)، حيث تنقل إليه الملفات المرضية، فيبدو كأنّه يستقرئ الغيب، إضافة إلى نقلها في بثّ مباشر كلّ ما يخطّط له الدكتور عاطف لمواجهة هذا الفساد المستشري في الوحدة الصحية، والذي يوقع الضحايا كلّ يوم.
ومع الخذلان المتوقع الذي نلتقي دائماً به في حياتنا، تقول الأحداث الأخيرة لك إنّ الشعوذة والتطلع إلى الغيبيات، والإيمان بمن يتحدثون عنها، أمور لا تنتهي، فعلى الرغم من إنقاذ الدكتور عاطف حياة المشعوذ، وحيث يصل إليه مصاباً إصابة خطرة في حادث سيارة، فإنّ ظاهرة الشعوذة تؤكد لنا أنّها تمتدّ وتتجذّر أكثر، حيث يلتف القرويون البسطاء حول الشيخ مرزوق، معتقدين عودته إلى الحياة، بفضل ما يمتلكه من قدرات خارقة، وليس بسبب إنقاذ الطبيب حياته، بما يعرف بإنعاش القلب الرئوي مستخدماً ذراعيه بالطبع.
في النهاية، تستطيع أن تختصر القول عن مسلسل "بالطو" أنّه استطاع، بحلقاته العشر، أن يسحب الجمهور نحو الشاشات، وأن يقدّم قضايا مهمة، ويطرح معايير مغلوطة فتّاكة وبطريقة كوميدية غير مباشرة، ومع احترام للأسرة العربية، ومن دون مطّ أو ملل. وكأنّ هذا المسلسل يريد أن يعتذر لنا عما ينتظرنا من دراما مملّة ومعتادة وممطوطة إلى ثلاثين حلقة في شهر رمضان الذي بات على الأبواب.