عجائب وألغاز
لم يعد موقف الأمة الحالي، خصوصاً دول الربيع العربي، الشاغل الأكبر لكثيرين من مخلصي المُنظرين اليوم؛ وإنما صار الشاغل الأساسي لهم مستقبل أمةٍ يبدو معتمًا على المدى القريب؛ فبعدما دارت التطلعات دورات كثيرة عبر عشرات السنوات استقرّت على الإيجابية فترة، وبدأت تزداد منذ نهاية عام 2010، ثم دارت الأيام دورة جديدة، فعادت الأحوال في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأيضًا سورية، إلى أسوأ مما كانت عليه؛ وأسفرت الأوضاع عن حلمٍ بمجرّد الدوران في المكان؛ أو بقاء الأحوال على ما كانت عليه بالأمس، فضلًا عن عدم تدهورها أكثر غدًا، فضلًا عن مرور الحاضر، فقد اجتمع وتكالب عدم إحسان إعداد المقاومين في وطننا العربي لمقاومة الطغاة مع مناصرة طرفٍ من أبناء الأمة الأعداء. وبناء عليه، أحسنا إعداد العدّة وإحكام الخناق لمحاولة التضيق ووأد الربيع العربي. وخلال قرابة عشر سنوات، نجحوا، إلا قليلًا من رجاء إفاقة للمقاومين، في وأد آمال الشعوب.
يثق المتابعون الشرفاء في عدم استمرار وضع الأمة الحالي، وأن هذه الفترة المظلمة من تاريخها ربما ليست الأسوأ على الإطلاق، ولكن الفترة اللازمة حتى تنهض الأمة من كبوتها الحالية هي ما يشغل كثيرين، ويضني حياتهم ويقلق حاضرهم ويكاد يمنع نومهم؛ فلا أحد يرضى منهم بتغلب العدو الآن، وتراجع مقاوميه، ومن صور ذلك التراجع إصرار المقاومين المصريين السلميين الذي كان يُقارب اليقين بعد 3 يوليو/ تموز 2013 على أن الرئيس الراحل محمد مرسي، رحمه الله، عائد إلى الحكم؛ وأن الشرعية وأنصارها ستكون الغلبة لهم، ودبّجت في ذلك مقالاتٌ كثيرة، وتدوينات على مواقع التواصل، وانطلقت آفاقٌ واسعةٌ من الخيال عن محاكماتٍ ثوريةٍ فورية لقتلة الثوار، ومحاسبة على أوسع نطاق، تطاول جميع العملاء، بداية من الجنرال الانقلابي الذي صار رئيسًا للجمهورية، في اختبار ومحنة للثورة والثوار، سرعان ما تذوب وتتلاشى. وكانت هناك فنون للأماني غريبة وعجيبة، لا تنطلق من واقع، ولا تؤوي إلى علم أو معرفة، وإنما تكاد تكون ضربًا من المحال أو الخيال، إن لم تكن كذلك بالفعل.
اختلط الواقع بصورة ما تهواه النفوس، وما تفهم أنه يمثل الحق فينبغي أن يكون، من دون إدراك أن هناك سننًا كونية يدور الوجود والبشر خلالها
ومثلما حدث في مصر كان مثيله في سورية، حتى بعد تسليح الثوار ودخول روسيا على الخط. وفي خضم هذه "المأساة" من استغراق بالظلال للأسف، اختلط الواقع بصورة ما تهواه النفوس، وما تفهم أنه يمثل الحق فينبغي أن يكون، من دون إدراك أن هناك سننًا كونية يدور الوجود والبشر خلالها ولا تجامل أحدًا، أيًا مَنْ كان. وفي خضم تلك المعمعة من تصوّرات، كان أغلب أولاء يعيب بشدة وقسوة على الذين يذكّرونهم بأن ما يقرأونه على أنه "كتاب واقع" ليس إلا كتابًا من خريف متخيل متساقط عن واقع تجربةٍ لم يحسنوا الإعداد لها؛ فلما طال الأمد على الجمع، بدأ التنافر والتناحر بين صفوف المقاومين، سواء بالقوة في الأخيرة أو حتى السلميين المُتلفتين راغبين في الوصول إلى حل!
ومع دوران الأيام والليالي، ورحيل الرئيس مرسي، وتمكن الأسد الابن من الحكم بشكل شبه عام، تراجعت أحلام الليل، وحل بدلًا منها برد وقيظ نهار وطويل ليل، وبدلًا من مراجعة سطور مُنظرين واستلهام حراك المُقاومين منذ قديم الزمان في ظروف مشابهة، تأزمت الأمور أكثر وأكثر، بإصرار القوم هنا وهناك على موقفهم، وعدم التزحزح عنه قيد أنملة.
وفق الله مقاومي الطغاة في العالم لترتيب أجندات الأهداف، تمهيدًا للوصول إلى الغايات، لا الانشغال بترّهات في الطريق!
أما قمة المأساة، فمع مرور الوقت، كفّ المُقاومون، سواء من أهل القاهرة أو دمشق (وإن أقام بعضهم في الخارج) بعد حين، عن محاولة الحل، ولو بمجرّد الحلم، واستفاقوا واستنهضوا الهمم لنقد قرار الرئيسين المتغلبين والحاكمين بالقوة في البلدين؛ فسالت من جديد أنهار من الكلمات موازية لاستمرار نزيف دماء الضحايا، فجادت القرائح بنقد جنون عظمة الجنرال الحاكم المصري، وأحيانًا إصراره على إظهاره؛ واستمرت مئات الساعات من البث، وآلاف الكلمات المقاومة، لكن بمجرد "نفي التعايش" مع الآخر في الواقع أو الخيال. ومن هنا استمرت مأساوية "التعايش السلبي" هذه، وصولًا إلى قرار إقالة بشار الأسد مفتي جمهوريته المدّعاة منتصف الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) ودلالة القرار وخطأ المفتي أحمد حسّون. ومع الإقرار بخطيئة الأخير، إلا أن المفترض أن القرار صدر عن غير ذي أهلية لدى الثوار، ومثله كمثل عبد الفتاح السيسي، كلاهما مستحوذ على سلطةٍ ليست له، والأصل التفرغ لمقاومتهما بالسبل المتاحة، لا التعايش العكسي أو المستهزئ أو المعاند في الفراغ للأسف.
وفق الله مقاومي الطغاة في العالم لترتيب أجندات الأهداف، تمهيدًا للوصول إلى الغايات، لا الانشغال بترّهات في الطريق!