عزيزتي غادة ... ليس للنشر
مرّة أخرى، تثير الكاتبة غادة السمان الانتباه والاهتمام بإعلانها قرب صدور كتابٍ يحمل رسائل الشاعر نزار قباني إليها.
قرأ العالم العربي كله تقريباً رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان، وأحب رؤية الأديب الفلسطيني المناضل في صورة العاشق المغرَم، المشتعل حباً، ويكتب كلماتٍ في رشاقة الوردة وقوة الديناميت إلى محبوبته. لكن، يبدو أن السمّان أحبت ذلك أكثر منا جميعاً، فعادت لتنشر رسائل الشاعر أنسى الحاج إليها. كان الاستقبال مختلفاً. لم يكن مرّ على وفاة الشاعر اللبناني المهم أكثر من عامين، عندما عرضت غادة السمّان ولعه بها. بدا الأمر كمحاولة مستميتة "لركوب التريند"، حسب مصطلحات "السوشيال ميديا". ولم يرُق للقارئ الاطلاع على حبّ الشاعر، ربما لاختلاف زمن التلقّي، وربما لعدم اهتمام القارئ بمعرفة خصوصية أنسي الحاج. والكتاب نفسه الصادر في حوالي 90 صفحة لم يقدّم شيئاً مهماً كان يجب أن يعرفه القارئ. رغم الإهداء الذي حاول أن يكون مثيراً، وكتبت فيه "إلى الذين يعتقدون مثلي أن للشاعر ألف ملهمة وملهمة". لم يضف الكتاب إلى سيرة أُنسي الحاج أي جديدٍ بمعرفة أن غادة السمّان، حسب ما تدّعيه، كانت إحدى ملهماته. إنما كان مرافعة طويلة حول كم صاحبته ملهمة ذكية يحتاجها الشاعر، ويسارع إليها ليحبّها ويحبّ حبّه لها!
كان شعوري وأنا أقرأ الكتاب، ونحو نصفُه صور ضوئية بخط أنسي، أني ضبعٌ ينبش قبر ميّت. كرهتُ الكتاب، وكرهتُ أني قرأته. لم يكن صورةً إنسانية مثل رسائل كنفاني، إنما كان صرخة كاتبةٍ تقول "أنا هنا. أنا كنت هنا. فإن نسيتُم، ها أنا أذكّركم". جعلتنا نفتّش جيوب الميت، ونقلّب أوراقه. ونفتح فمه لننظر الى أسنانه. ونعبث بشعره. بلا أي فائدةٍ للأدب أو النقد أو التأريخ. إنما لمجرّد إشباع الفضول الإنساني. لكي نشعر بمتعة التلصّص. لذلك ربما كان كتاب "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان" أحد الكتب النادرة التي اقتنيتها طوال ثلاثين عاماً، ولا أعرف أين ذهبت. لم أهتم بالاحتفاظ به. ربما تخلّصت منه. وربما تركته يضيع وسط أكوام الكتب حتى لا أراه مرّة أخرى.
وبعد سبع سنوات، تقدّم لنا الكاتبة دعوة فضول أخرى. هذه المرّة لننبش في أسرار شاعر عُرف بدونجوانيته، واحترافه الحب. فماذا سنعرف أكثر عن نزار قباني عندما نقرأ رسائله إلى السمّان؟ لعلها مرافعة طويلة أخرى، لنرى كيف كان الشاعر السوري منبهراً بها، مؤمناً بذكائها، محتاجاً لها، فكل شيء يدور حولها، وحول الفضول الذي يدفع القارئ إلى شراء الصحف الصفراء ليعرف "سرّ علاقة الرئيس بالراقصة وكيف أطاح ذلك وزيرا معروفا"، أو "حقيقة ليلة حمراء قضاها فنّان معروف، وكيف ضبطته زوجته"، فالبشر يحبّون النميمة، ويعشقون الفضائح. لذلك تبيع صحف التابلويد أكثر من غيرها.
يقول لي صديقي الصحافي الثقافي الكبير العارف ببواطن الأمور، إنه كان هناك مشروع خطوبة بين الكاتبة والملحن بليغ حمدي، فألطم ذعراً. هناك إذن كتاب رسائل رابع في الطريق. بعد الأديب الفلسطيني، والشاعر اللبناني، والشاعر السوري، قد يأتي دور الملحّن المصري. كأنهم شخصيات في فيلم لنادية الجندي. حيث تقف ملكة متوّجة يرتمي أقوى الرجال عند قدميها. نجمة الجماهير التي تهزّ كل العروش. ولا تعرف الحدود. لا حدود الدول، فلأجلها يأتي العشّاق من كل البلدان، ولا حدود الخصوصية. كل من قال لها أحبك سيوضع في بروازٍ على حائط فخرها. .. هل يعني ذلك أن ننفي أهمية أدب الرسائل؟ وقيمة مراسلات الأدباء الشخصية؟ وأن تصبح الخصوصية الشخصية حاجزاً دون دراسة حياة الأديب؟ بالتأكيد لا. لكن هل تقدّم لنا هذه المراسلات أي شيء أكثر من "صورة غادة السمّان عند كبار أدباء البلاد العربية"؟ إنها لا تلقي الضوء على شخصية الأديب، إنما تجعل غادة السمّان تحت الأضواء. ولا أظن هذا سببا كافيا لنبش القبور.