عشر سنوات ويتحدّثون عن المؤامرة
في غابة الندوات والمحاضرات الافتراضية التي تملأ الشبكة العنكبوتية، منذ اجتياح الوباء البشرية، دعاني صديق عزيز إلى ندوة تحمل في عنوانها اسم سورية، موضحاً أنه يتمنّى مني أن أشارك وأتدخل في الحوار، محاولاً توضيح الصورة أمام مشاركين كثر من الفرنسيين الذين تغيب عن أكثرهم معرفة الواقع السوري المر والمستمر منذ 2011 على الأقل. كانت المجموعة مفتوحة، وبالتالي لا حاجة للدعوة أو للتسجيل، فدخلتها غير مستأذنٍ. في البداية، هالني العنوان الذي يتطرق إلى حرب على سورية. ومن ثم، استغرق مني الأمر ثواني معدودات لأعرف الجهة وراء تنظيم هذه الندوة، وطبيعة المشاركين فيها وانتماءهم، من خلال استطلاع بعض أسماء منهم من السوريين، وبعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الفرنسيين. وتحاملت على نفسي لأتابع الندوة، على الرغم من تأكدي أن الاستماع إليهم سيؤثر بي صحياً على أقل تقدير، لما تحمله مواقف الأسماء المعروفة بينهم من ترويج كذب يجذب الهلوسة السياسية، وافتراءاتٍ تكره المنطق والعقلانية والإنسانية، ومن نفسياتٍ طغت عليها ثقافة المؤامرة وعبادة البسطار. إلا أن رغبتي في إحسان الظن بالآخر وانتظار تعبير منه عن الحد الأدنى من المشاعر الإنسانية والمواقف الأخلاقية كانت تفوق هذه الخشية من الوقوع على سردياتٍ غير عقلانيةٍ، ما فتئ بعضهم يطوّرها منذ عشر سنوات على أقل تقدير.
استهلّ المضيفون الندوة بخطابٍ خشبيٍّ أصابه التسوّس والاهتراء، شبيه بالخطابات التي ترعرعنا، نحن السوريين، في أتونها عقوداً، وشوّهت من لغتنا ومن إدراكنا. لكن ما ميّز هذا الخطاب، في هذه الندوة، ليس نوع الخشب، بل إن التعبير كان بلغة موليير. وهذه لغة ليست جزلة في الخطابات الخاوية، كما أن المفردات الفرنسية تبحث عن معانٍ محدّدة، ما أضفى على بداية مشاركتي نوعاً من عبثية نصوص محمد الماغوط غير المشوّهة من دريد الطوشة الملقب غوار لحام، فانتظرت مبتسماً، بمرارة، أن ينتقل الكلام أو يُنقل إلى متحدّث فرنسي يختصر في المرادفات، ويحدد موقفه بعبارة أو اثنتين، حتى أسجّل ما يحمل الحد الأدنى من المعنى، لأناقشه إن أُتيح لي.
وصل الأمر ببعض من الفرنسيين إلى نقضٍ كاملٍ لسردية بداية الثورة السورية في مدينة درعا، وتكذيب قصة المراهقين الذين خطّوا كلاماً معارضاً على جدران مدرستهم
فاض رجال السلطة بالكلام الذي لا يحمل من الصدق إلا كراهيته، وهم المتبرّعون شكلياً، والمنخرطون ضمنياً في آلة الإعلام الحربي غير النظيفة، والتي تتبنّى قاعدة غوبلز المقدّسة: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس... وهؤلاء الناس لا يصدّقون، وإنما يرغبون في أن يصدّقوا، لأنه مع تطور الإعلام وإمكانية الحصول على المعلومات شبه الدقيقة من خلال مقاطعة عدد كبير منها، يمكن له أن ينقل الإنسان من مرحلة الخضوع للكذب إلى مرحلة التشكيك في هذا الكذب في أقل تقدير. ووصل الأمر بأحدهم إلى نقضٍ كاملٍ لسردية بداية الثورة السورية في مدينة درعا، وتكذيب قصة المراهقين الذين خطّوا كلاماً معارضاً على جدران مدرستهم، معتبراً أن "آلافا" من المسلحين الليبيين تم إدخالهم وتوزيعهم في أحياء المدينة أسابيع عدة قبل بدء المظاهرات. مشيراً بذلك إلى وجود المؤامرة الشهيرة المزعومة التي سمّمت عقول بافلوفيين عرب وغربيين كثيرين. وفي الحقيقة، وعلى الرغم من أكاذيب عديدة تابعناها منذ سنوات عن البارجة الألمانية وعن الضباط الفرنسيين، إلا أن قصة المسلحين الليبيين تجاوزتها بمراحل من السخرية المؤلمة، والتي تُحاكي ما صاغته روايات فرانز كافكا.
ما نسمعه، وما زلنا، عن المؤامرة والفلاشة والبارجة وأنبوب الغاز، لا يشجّع على أي نوع من النقاش
انتظرت من بعضهم شيئاً من الذهول، إثر هذا الكلام كالذي أصابني، وبما أن منصة زووم تتيح التمعّن في وجوه المشاركين الذين قاموا بتفعيل كاميراتهم، فلقد تمعّنت في الوجوه فلم أجد سوى كائناتٍ تهز برؤوسها موافقة، وشبه مستمتعة بمستواها المتدنّي من الوعي. ولم يكد أبواق السلطة ينتهون من سرد الأساطير المؤسسة للغباء الإنساني، حتى تولّى أحد الأعضاء اليمينيين المتطرّفين من الفرنسيين الكلام، مُشيداً بعلمانية مزعومة وبحماية محمودة لمسيحيي المشرق، لم تكن لتقوم لها قائمة إلا بدوام الاستبداد. واستمر عليه الحال بين كاذب ومشيدٍ وملفِق، حتى تساءلت، مع نفسي المتألمة، عن سر بقائي، وكأنني مصاب بداء المازوشية.
خُيّل لي، وبعد مرور سنوات عشر من القتل والتدمير والإخفاء القسري والتعذيب الممنهج والخراب الإنساني والانقسام المجتمعي والتهجير واللجوء، أنه من الممكن إيجاد صيغة ما لفتح نقاش ينحصر بالإنسانيات، بعيداً عن السياسة والمحاور والمواقف المتشدّدة، حتى ممّن يعتقد بمشروعية الحراك كما أعتقد أنا. لقد اعتقدتُ أيضاً أننا لن نحتاج، نحن السوريين، ممن يشعرون بمأساة أهلهم وشعبهم بكل مكوناته الإثنية والدينية والمذهبية والطبقية والمناطقية، من دون أي تمييز بين موالٍ ومعارض، إلى البحث في جنس الملائكة وعن مخترع العجلة، وأننا سنحاول، بمضض، أن نجد أرضية مشتركة تحاكي الإنسان، وتتوقف عند الإنسان، دوناً عن الرهانات والأقاصيص وسرديات المظلوميات، وتوزيع شهادات الضحايا. وكما زوّدت نفسي بمعايير الانفتاح على الآخر، وبقبول قلقه وبتفهم حذره. إلا أن ما نسمعه، وما زلنا، عن المؤامرة والفلاشة والبارجة وأنبوب الغاز، لا يشجّع على أي نوع من النقاش، مهما تحلّى الإنسان بالصبر والأمل.